إنّ الإيمانَ ليس كلمةً تقال، إنّما هو حقيقةٌ ذاتُ تكاليفَ، وأمانةٌ ذاتُ أعباءَ، وجهادٌ يحتاجُ إلى صَبْرٍ، وجهدٌ يحتاجُ إلى تحمُّلٍ، فلا يكفي أن يقول النّاس: “آمَنَّا”. قال تعالى في مطلعِ سورةِ العنكبوتِ: “الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” العنكبوت: 1 ــ 3. إنّ الذي يقرأ هذه الآياتِ الكريماتِ من فواتِحِ سورةِ العنكبوتِ وهي تتحدَّثُ عن الفِتَنِ، يخطر بباله سؤالٌ: ما السّبيلُ للخلاصِ من هذه الفِتَنِ؟ فيأتي الجوابُ في آخر آيةٍ من السّورَةِ نفسِهَا، وهذه الآيَةُ تُعْتَبَرُ قاعدَةً عظيمَةً للنّجاةِ من المِحَنِ والشّدائِدِ والفِتَنِ، وكأنّ آخرَ السّورَةِ جاء جَوَابًا عن أوّلِهَا، قال تعالى “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” العنكبوت: 69. إنّ السّبيلَ إلى الله تعالى ليس مُعبَّدًا سَهْلًا، وليس مفروشًا بالورودِ والرَّيَاحِينِ مزيّنًا بالزّهورِ، بل هو طريقٌ شاقٌّ، يكون دائمًا محفوفًا بالأشواكِ والمخاطرِ، ليعلَمَ اللهُ الصّادِقَ من الكاذِبِ، ويميزَ المُحِقَّ من المُبْطِلِ. قال ابن القيّم رحمه الله: “أين أنت؟! والطّريقُ طريقٌ تَعِبَ فيه آدمُ، ونَاحَ لأجله نوحٌ، وَرُمِيَ في النّارِ الخليلُ، وأُضْجِعَ للذّبحِ إسماعيلُ، وبِيعَ يوسفُ بثمنٍ بخسٍ، ولَبِثَ في السّجنِ بضعَ سنينَ، ونُشرَ بالمنشارِ زكريَّا، وذُبِحَ السّيّدُ الحصورُ يحيى، وقاسى الضرَّ أيّوبُ، وزاد على المقدارِ بكاءُ داودَ، وسار مع الوحشِ عيسى، وعَالَجَ الفقرَ وأنواعَ الأذى محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم”. إنّ المؤمنَ وهو يجاهدُ في الله لا بدّ له من عُدَّةٍ يتسلّحُ بها، وأقوى الأسلحَةِ سلاحُ الصّبرِ، فمن صبر على جهادِ نفسِهِ وهواه وشيطانِهِ غلبهم وانتَصَرَ، وصارَ مَلكًا عزيزًا، ومن جَزَعَ ولم يصبِرْ غُلِبَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا، كما قيل: “إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْلِبْ هَوَاهُ أَقَامَهُ مَنْزِلَةً فِيهَا الْعَزِيزُ ذَلِيلُ وقد جاء في الحديث الصّحيح: “وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ،وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ”.
الجزء الأول من خطبة الشيخ بن عامر بوعمرة