إنَّ هذه الأيامَ التي تمُرُّ بها أمةُ الإسلامِ حرجةٌ عصيبةٌ، بلغَتْ فيها القلوبُ الحنَاجرَ، أرادَ الله منهَا تَمْحِيصَ الصُّفوفِ، وتطهيرَ النُّفوسِ، ونَبْذَ النَّعَرَات، والتَّرفُّعَ عنِ الخِلَافات والعَصَبِيَّات، وإعْلَاءَ رايةِ الحقِّ خفَّاقَةً في علياءِ الشَّرَفِ والعظمةِ والكبرياءِ، إنَّ المُتأمِّلَ في أحوال المسلمينَ اليومَ يَقِفُ علَى واقعٍ مريرٍ يُدْمِي القلبَ، ويُدْمِع العينَ، ويَشْفِي غيظَ العدوِّ المتربِّصِ بالأمةِ سُوءًا وشرًّا. قَلِّبْ -أيها المسلمُ- ناظِرَيْك في بلاد الله الواسعة من شرقِهَا إلَى غرْبِهَا، ومن قاصيهَا إلى دانيها: تَجِدْ بلادَ الإسلامِ تئنُّ تحتَ وطأةِ الجهلِ والفقرِ والتخلُّفِ، وما زاد الطِّينَ بِلَّةً تفرُّقُ الكَلِمةِ، وسُحْقُ الهُوَّةِ بين أبناءِ الملَّةِ الواحدةِ، فتصَدَّعَ صرحُ الأمة، وكثُرَتِ المحنُ والفتنُ والبلايَا، وتكَالَبَتِ الأُمَمُ علَى هَذَا الجسد المريضِ المنهَكِ المتآكلِ، فصرْنَا لقمةً سائغةً عَلَى مأدُبَةِ اللِّئام، تجتمعُ علينا كمَا تَجتمعُ الذئابُ على فريسَتِها، وما يحْدُثُ في أولى القبلتين من تَقْتِيلٍ وتهجيرٍ؛ ومَا الموقفُ المخْزِي لبعضِ العُرْبانِ، إلا خيرُ شاهدٍ على ما تُعَانيهِ أمَّتُنَا من ويلاتٍ، وويلٌ لنا من قوله عليه الصلاةُ والسَّلامُ كما في الصَّحِيحَين ” وَيْلٌ للعَرَبِ من شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ”.
إنَّ الحربَ الإجراميَّةَ التي سلَّطَهَا اليهودُ المغتصِبُونَ على أرضِ فلسطينَ الأبيةِ، وخصوصًا غزَّةَ المجاهِدَةَ المقاوِمَةَ، لهيَ تَعَدٍّ سَافرٌ ومفضوحٌ على الأراضي المقدَّسة، بل علَى كلِّ أمةِ الإسلام. إنَّ ما يدورُ في أَرْضِ فلسطينَ العزَّةِ اليومَ، لهو الصراعُ المستمِرُّ بين الحقِّ والباطلِ: بينَ عُصْبَةٍ مُجْرمةٍ مغتصِبَةٍ للحقوقِ؛ منتهكَةٍ للحُرُمَات، وشعبٍ ينشدُ الحقَّ والعدْلَ والحرِّيَّةَ، وإقامَةَ موازِينِ القسطِ في حياةٍ كريمَةٍ. إنَّ ما تقومُ به الأيادِي الآثمةُ في بيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدِسِ لهو الإفسادُ العريضُ بعَيْنِه، فالإفسادُ في الأرضِ؛ ونقضُ العهودِ والمَوَاثيقِ؛ وسَفْكُ الدِّمَاء؛ وإبادةُ الأبرياءِ، هو دَيْدنُهُم منذُ فجْرِ التاريخِ. ألم ينقُضُوا العهودَ والمواثيقَ مع رسولِ الله الذي حفِظَ لهم حقوقَهُم كرعايا الدولةِ الإسلاميةِ بالمدينةِ المنوَّرَةِ، قبلَ أنْ يَجِفَّ مِدَادُها؟، ألم يَخُونُوا المُسْلِمينَ في بلادِ الأندَلُسِ، وظَاهَرُوا الصَّليبيينَ عليهم، وسامُوهم سُوءَ العذابِ؟، وسَلُوا أزِقَّة إشبيلية، وسرقسطةَ، وغِرناطةَ، وسَبْتَه؟، وخيانتُهُم في جزائرنا الحبيبةِ أثناء فترَةِ الاستعمارِ الغاشمِ لا تزالُ صفحةً سوداءَ في تاريخِ الجزائر الحديثِ: لقدِ استأمَنَ يهودُ الجزائرِ مُسْلِميهَا على أموالِهِم وممتلكاتِهِم إبَّانَ الحكومةِ المُوَالية للنَّازيَّةِ، وحَفِظَتْ لهم وَدَائعَهُم وأدَّتْها إليهِمْ كاملةً غيرَ منقوصَةٍ، وبمجرَّدِ سقُوطِ الحُكُومةِ، نكَّلُوا بالجزائريين شَرَّ تنكيلٍ، وباعُوا ذِمَمَهُم وعَهْدَهُم لدولة المستعمرِ الغاشمِ، وتنكَّرُوا للجزائر، وطَعَنُوا الشَّعْبَ الجزائريَّ في مَقْتَلٍ، وعضُّوا الأياديَ البيضاءَ التي مُدَّتْ إليهم، وصَدَق اللهُ إذ يَصِفُهُم بقوله “لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ”. التوبة 10.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر