كثيرةٌ هي نِعَمُ اللهِ عزَّ وجلَّ، أسبَغَها وبسَطَها على عِبادِهِ، قال تعالى “وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً” لقمان: 20، وقال تعالى:”وَإِن تَعُدُّوا۟نِعْمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ” النحل: 18، ومن هذه النِّعَمِ العظيمةِ الجليلةِ نِعمةُ الاستِقلالِ والحُرِّيَّةِ التي يُقدِّرُها حقَّ قدرِها أولئِكَ الذين سُلِبَتْ منهم، وعاشُوا فَترةَ الحرمانِ، وذاقُوا مرارةَ الذُّلِّ والاستِعبادِ، وعانَوا حياةَ البُؤسِ والشقاءِ في ظلِّ الاستِدمار. فهؤلاء، إذا ما حَلَّت ذِكرى استرجاع الاستِقلالِ، شَكَرُوا اللهَ أن خَلَّصَهُم من قهر الاحتِلالِ، وفَرِحوا بِنَصرِ اللهِ، قال تعالى: “وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُومِنُونَ بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ” الروم: 4، 5.أمَّا الذين فَتَحُوا أعينَهم على نِعمةِ الحُرِّيَّةِ والاستقلال، ولم يُلَقَّنوا فَضلَ هذه النِّعمةِ، فقد لا يعني حُلولُ ذِكرَاها بالنسبةِ إليهم شيئاً، وقد لا يُذكِّرهم بها سوى استفادَتِهِم يومَ عطلةٍ؛ وشرٌّ من هؤلاء من يَستخِفُّون بها، ولا يَرَونَ أنَّها تستحِقُّ أن يُحتَفى بها، بل منهم من يتمنَّى لو دامَ زمنُ العبوديّة والاحتلال؛ لأنَّ المستَدمِرَ خَرَجَ من أرضِهم ولم يَخرُج من قلوبِهم وألسِنَتِهِم.
إنَّ الاستِقلالَ ليس استِرجاعَ أرضٍ وحُرِّيَّةِ شعبٍ فحسبُ، ولكنّه أيضاً كرامةُ دِينِنا الّذي خطّط المستدمر لاستهدافه، وأُريدَ له أن يُمحَى من هذه الأرضِ، وقد عبَّرَ عن ذلك كثيرٌ من القادة الفَرنسيّينَ، في الذِّكرى المئويةِ للاحتِلالِ؛ حيث قال أحدُهم: “إننا لا نحتَفِلُ بمرورِ قرنٍ على احتِلالِ الجزائرِ، ولكننا نحتَفِلُ بجنازةِ الإسلامِ في الجزائرِ”، وكذلك في بدايةِ الخمسينياتِ، وقبيلَ إعلانِ الجهادِ، أعلن رئيسُ الحكومةِ الفَرنسيةِ قائلاً: “إنَّ الصليبَ سيُحَطِّمُ الهلالَ”، ولكن، بفضلِ اللهِ حُطِّمَ الصليبُ وارتَفَعَ الهلالُ، ويأبَى اللهُ إلا أن يُتِمَّ نورَه ولو كَرِهَ الكافرون. إنَّ تسميةَ الاستِقلالِ بالنِّعمةِ ليس من قَبيلِ المجازِ، بل هو على وجه الحقيقة بشهادةِ الوحي؛ وهو أصدَقُ شاهدٍ؛ إذ يقولُ سبحانهُ في مُحكَمِ التَّنزيلِ: ” يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوٓا۟ إِلَيْكُم أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ” المائدة: 11، فالهمُّ ببَسطِ الأيدي يعني الاحتِلالَ ومُصادَرَةَ الحُرِّيَّةِ، وكفُّ الأيدي المبسوطةِ يعني نِعمةَ الحُرِّيَّةِ والاستِقلالِ التي أنعَمَ بها سبحانهُ علينا، وأمرَنا بأن نَذكُرَها بقوله تعالى: “ٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ “، وذكرُها إحياؤُها وشكرها، والاحتِفاءُ بها.
الجزء الأول من خطبة الشيخ بن عامر بوعمرة