إن مما قرَّرَته شريعةُ رَبِّنَا الغرَّاءُ أن مقصِدَ العقل من الكلياتِ الخمس الكبرى التي أُمِرْنَا بالمحافظة عليها، قال حجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي قدس الله سره: ” ومقصود الشرع من الخلق خمسةٌ: وهو أن يحفظ عليهم دينَهُم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكلُّ ما يتضمن هذه الأصولَ فهو مصلحةٌ، وكلُّ ما يفوِّتُ هذه الأصولَ فهو مفسدة، ودَفْعُهُ مصلحةٌ”. ولعلَّ من أهم ما يدلِّلُ على أهمِّيَّة إعمال الفكر وتحكيمِ العقل، ما نصَّ عليه علماؤنا في مباحثَ كثيرةٍ أصوليَّةٍ وفقهيَّةٍ، كالحديث عن العلل التَّعَبُّدِيَّةِ أو معقولةِ المعنى، وينبني على ذلك إجراءُ الأحكام الفقهية فيها كالقياس وغيره، فنجدُ الشَّرْعَ مثلا يُعَلِّلُ الأحكام التكليفية بما تُدْرِكُه العقول، فشرَعَ الزكاة تطهيرا للمال من شوائبه كالبخل والشح والأَثَرَةِ، وسدَّا لخَلَّةِ الفقراء، ودفعاً لحركة المال في دورته الاقتصادية، كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء، وشرَعَ البيع والشراء لتبادل المنافع، وتيسير سبُل الحياة، وشرع الزواج حفاظا للنسل والعرض، ولأجل عمارة الكون، ولا شكَّ أن هذه المعاني إنما أُدْرِكَت بإعمال العقل؛ وإمعان النظر. فإن العقل الذي ينبغي التنويهُ به، والالتفافُ حوله، هو العقلُ الذي يهتدي بنورٍ من العلم النافع الصحيحِ، ويستنيرُ بقبسٍ من وحيِ السماء الذي جاء به الرسل والأنبياء، إذْ إنَّ فصْلَ العقل عن الوحي، إنما هو فتحٌ لبابٍ خطير، يَصْعُبُ سَدُّهُ، وهو تغليفُ المعقول بلباسِ الهوى والتَّشَهِّي، وكم من قضية دعا لها الملبِّسُون على الدين بدعوى العقلانية والمعقولية، وهي في حقيقتها هدمٌ لأركان الدين، وخروجٌ عن الجادَّة والفطرة. ألم يدَّعِ المبطلون ردحًا من الزمن بأن الربا ضرورةٌ اقتصادية، ونعتُوهَا بالمصلحة، وهي في حقيقتها هدمٌ لأركان الاقتصاد، وإفسادٌ لجوهره؟ ألم يزِعُمِ المرجفون بأن الحرِّيَّة المطلقة التي لا قيدَ لها من أهمِّ ما يعزِّز الكرامة الإنسانية، وهي في حقيقتها خروجٌ عن كلِّ خُلُقٍ وفضيلة؟. إن مما ينبغي الحرصُ على تجسيده في واقعنا، هو إعمالَ الفكرِ المنتج الذي يصنع التغييرَ الإيجابيَّ في سلوك الفرد والمجتمع، فيولِّدُ نهضةً علمية؛ وإقلاعا حضاريًّا، يعيد للأمة الإسلامية مجدها، ويصدقُ فيها شهادة الحق تعالى بأنها أمة وسط؛ شاهدةٌ على كلِّ الأمم، فقال تعالى “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا” البقرة:143. ولتحذرِ الأمةُ من الوقوع في مزالق المدنية المعاصرة، من تقديسٍ للأشخاص أو الأشياء، إذ التَّعَلُّقُ بالأشخاص والذَّوات، يقود إلى صناعة الأصنام البشرية، وهو مؤذنٌ بخراب العُمْران، وتعظيمُ الأشياء، ينتجُ مجتمعا مادِّيًّا، تُتَّخَذُ فيه المادةُ إلها يُعْبَدُ من دون الله، وهو مؤذنٌ أيضا بالفساد العريض. وأمةُ الشهادة والحضارة هي التي ينتج عقلها أفكارا حيَّةً ولَّادَةً، تصنعُ حاضرا مشرقا، وتستشرف مستقبلا زاهرا.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر