قال تعالى ” وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ” المؤمنون: 80. إن هذه الآية الكريمةَ، تتحدَّثُ عن قدرة الله المطلقةِ، فَذَكَرَتْ أُنْمُوذَجَيْنِ جَلِيَّيْن على ذلك، فهو سبحانه وتعالى المتصرِّفُ في خلقه إماتةً وإحياءً، وهو عزَّ وجلَّ مكوِّر الليل على النَّهار، ثم ذُيِّلَتِ الآيةُ بالاستفهام التَّقْرِيرِيِّ “أفلا تَعْقِلُونَ”، تنويها بشأن العقل والفكر، وتقريرا لمكانة التَّدَبُّرِ والنَّظَرِ. إن الآياتِ الكريمةَ التي ذُيِّلَت بهذه الفاصلة القرآنية “تَعْقِلُونَ” قد فاقتِ العشراتِ، من ذلك قولُهُ تعالى “لَقَدْ أَنزَلْنَا إليكم كتابا فيه ذِكْرُكُم، أفلا تَعْقِلُونَ” الأنبياء: 10، وقوله عز وجل ” قال رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كنتم تَعْقِلُونَ” الشعراء: 28، وقوله عزَّ من قائل ” وباللَّيْلِ أفلا تَعْقِلُونَ” الصافات: 138، وكلها ناطقةٌ بنعمةِ العقل العظيمة، ومكانته الرَّفيعة. ونجد بالمقابل تَشْنِيعَ القرآن الكريم على أناسٍ عطَّلُوا عقولهم وحَوَاسَّهُم عن معرفة الحقِّ سبحانه، فَنَعَتَهُمْ بأنهم أَضَلُّ من البهائم العَجْمَاوَاتِ، فقال تعالى: ” ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنِّ والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هو الغافلون” الأعراف: 179. وقد عدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام من حَرِصَ على محاسبة نفسِهِ في دنياه، عاقلاً حصيفًا، ومن اتَّبَعَ الأمانيَّ وهواهُ؛ أحمقَ عاجزًا، فعن شدَّادِ بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “الكيِّسُ من دان نفسه وعَمِلَ لما بعد الموت، والعاجزُ من أَتْبَع نفسه هواها وتمنَّى على الله” رواه الترمذي، إنَّ مِمَّا أجْمَعَتِ الأُمَّةُ على تقريره أن العقل مناطُ التَّكْلِيف، إذْ به تُعْقَلُ الأُمورُ، وبه يُمَيَّزُ الصَّواب من الخطأ، فلا تكليفَ على غيرِ بالغٍ، أو فاقِدِ عَقْلٍ، فقد جاء في سنن أبي داود عن علي رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال ” رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن النَّائم حتَّى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتَّى يحتلمَ، وعن المجنون حتى يَعْقِلَ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر