لقَدْ تَعَبَّدَنَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الجَامِعَةِ بَأَعْظَمِ الأَوَامِرِ امْتِثَالًا، وَبِأَخْطَرَ النَّوَاهِي اجْتنَابًا، قالَ ابنُ مسعُودٍ رضيَ اللّهُ عنْهُ: “هَذِهِ أَجْمَعُ آيَةٍ فِي القُرْآنِ لخَيْرٍ يُمْتَثَلُ ولشَرٍّ يُجْتَنَبُ”، وَلَنَا وَقْفَةٌ عَامَّةٌ معَ الأَوَامِرِ الثَّلَاثَةِ التي تَعَبَّدَنَا اللّهُ تَعَالَى بهَا، ثمَّ وَقْفَةٌ خَاصَّةٌ معَ الأَمْرِ بالإِحْسَانِ. لقد خَاطبنَا اللهُ تعالَى في هذِه الآيةِ بثلاثَةِ أَوَامِرَ عظيمَةٍ:
أَوَّلُهَا العَدْلُ: وهو كُلُّ مَفْرُوضٍ منْ عَقَائِدَ وشَرَائِعَ وسُلُوكٍ، ومنهَا: أَدَاءُ الأَمَانَاتِ، وتركُ المَظَالمِ، والإنصَافُ، وإعطَاءُ الحَقِّ لمنْ لَهُ الحَقُّ، وتُعْرَفُ مَرْتَبَةُ العَدلِ هذهِ بمَرْتَبَةِ الحُقُوقِ والوَاجبَاتِ الِّتي لا يَجُوزُ للمسْلِمِ أن يَتَعَدَّى حُدُودَهَا، بأن يُقَصِّرَ في وَاجِبٍ، أو يَمْنَعَ حَقًّا، وكِلَاهُمَا في دَائرَةِ المحظُورِ.
وثانيهَا الإِحسَانُ: وهوَ فعلُ كلِّ مندُوبٍ إليهِ، وهوَ فَوقَ مَرتَبَةِ العَدْلِ “فهيَ مَرتَبَةُ كَمَالٍ وفَضْلٍ” ولا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، منْ ذَلِكَ العَفْوُ عِنْدَ المَقْدِرَةِ.
وثالثُهَا صلَةُ ذِي القُرْبَى والرَّحِمِ بأنوَاعِ الصِّلَاتِ المَادِّيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ، ومَعْلُومٌ مَا للرَّحِمِ منْ مَكَانَةٍ فِي التَّشْرِيعِ الإِسْلَاميِّ، قَالَ عليهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ منَوِّهًا بمَكَانةِ الرَّحِمِ، ومشَدِّدًا في حَقِّهَا، كَمَا عند مسلم من حَديثِ عَائشَةَ أمِّ المؤمنينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا: “الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ” وَلَنَا عَوْدٌ جَمِيلٌ إلى الأَمْرِ بِالإِحْسَان. ويبتدَئُ مَقَامُ الإحسَانِ بعبادَةِ القُلُوبِ: بأنْ يتَحَقَّقَ المسلِمُ بمعنَاهُ الذِي ورَدَ فِي حَدِيثِ جبرِيلَ عليهِ السَّلَامُ الذِي رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضيَ اللّهُ عنهُ: “أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ” ثُمَّ يُتَوَّجَ عَمَلًا صَالِحًا متقَنًا يَظْهَرُ عَلَى الجَوَارِحِ عِبَادَةً وسُلُوكًا، ويُمَثِّلُ له النّبِيُّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأَمْثِلَةٍ كثِيرَةٍ، نَذْكُرُ بَعْضًا من مَظَاهِرِهَا تَمْثيلًا لا حَصْرًا: فَمنْهَا الإحْسَانُ إلى الحَيَوَانِ، وفيهِ يَقولُ عليهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ كما عندَ مُسْلِمٍ من حَدِيثِ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ رضيَ اللهُّ عنْهُ: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ…”، وإتْقَانُ العَمَلِ وتَجْوٍيدُهُ لَوْنٌ من أَلْوَانِ الإِحْسَانِ، فَقَدْ وَرَدَ في الأَثَرِ الصَّحِيحِ كما في شُعَبِ الإِيمَانِ منْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضيَ اللّهُ عنهَا: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر