أنوار من جامع الجزائر.. مفهوم التنمية المستدامة – الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. مفهوم التنمية المستدامة – الجزء الأول –

إنّ شريعةَ رَبِّنَا تَبَارَكَ وتعالى الخَالِدَةَ صَالِحَةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، مُلَبِّيَةٌ لحاجيَاتِ الإنسَانِ في شتَّى مَفَاصِلِ الحَيَاةِ، فقد نَصَّ القرآنُ الكريمُ بصريحِ عبارَتِهِ على هذه الحَقيقَةِ؛ فقال عزَّ من قَائِلٍ”مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ” الأنعام: 38، ولمّا كانت النَّوَازِلُ والمُسْتَجِدَّاتُ غيرَ منتهِيةٍ، مقارنَةً بمَحْدُودِيَّةِ نصوصِ الوحيين ــ الكِتَابِ والسُّنَّةِ ــ عُلِمَ يقينًا بأنَّ كُلَّ ما استجَدَّ في حياةِ النّاسِ فللشَّرعِ الحكيمِ حُضُورٌ؛ ولهُ فيه حُكْمٌ شَرعِيٌّ، إمّا بالتَّنصِيصِ؛ وإمّا بالِاستنبَاطِ المَبْنِيِّ على أُصُولِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، ومنهُ فإنَّ شريعَةَ رَبِّنَا مُهَيْمِنَةٌ على كُلِّ تصرُّفَاتِ العبادِ، ووجَبَ على المُسْلِمِ الإذعانُ لحُكْمِ السَّماءِ في كُلِّ شُؤُونِ حياتِهِ، قال تعالى “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” النساء: 65. قال الأستاذ سَيِّدٌ صاحبُ الظّلالِ رحمَهُ اللّهُ كلامًا نفِيسًا عند تفسيرِ قولِهِ تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” المائدة: 3، وهو يقرِّرُ هيمنَةَ أحكَامِ الشَّرْعِ على حَيَاةِ النّاسِ في كُلّ  الأَعْصُرِ: “إنّ شريعَةَ ذلك الزَّمَانِ الذي نزل فيه القرآنُ هي شريعَةُ كُلِّ زَمَانٍ، لأنّها بشهادَةِ اللّهِ شريعَةُ الدِّينِ الذي جَاءَ للإنسَان في كُلِّ زَمَانٍ وفي كُلِّ مَكَانٍ، لا لجماعَةٍ من بَنِي الإنسَانِ، في جيلٍ من الأجيَالِ، فِي مَكَانٍ منَ الأمكنَةِ، كما كانت تجيءُ الرُّسُلُ والرِّسَالَاتُ،… واللّهُ الذي خَلَقَ الإنسَانَ، ويعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، هوَ الّذي رَضيَ له هذا الدِّينَ المُحْتَوِيَ على هذه الشّريعَةِ، فلا يقول: إنَّ شريعَةَ الأمسِ ليست شريعَةَ اليَوْمِ، إلاَّ رَجُلٌ يَزْعُمُ لنفسِهِ أنَّهُ أَعْلَمُ منَ اللّهِ بحاجَاتِ الإنسَانِ وبِأَطْوَارِ الإنسَانِ”. إنّ ممَّا كَثُرَ الكلَامُ فيه مَوْقِفَ الإسلَام من التَّنميَةِ المُسْتَدَامَةِ–وهو مصطلَح معَاصرٌ-، والتِي صارت حديثَ العَامَّة والخَاصَّة، وهي أَسمَى غَايَةٍ تَسعَى المَدَنِيَّةُ الحديثَةُ للرُّقِيِّ إلى عَلْيَائِهَا، والتَّحَقُّقِ بأركَانِهَا،          وصولًا إلى السّعادَةِ المنشودَةِ في هذه الحَيَاةِ. وقبل الخوضِ في مَعَالِمِهَا، يَحْسُنُ بنا أن نقفَ عند تعريفِ أهلِ الشَّأْنِ لها بما يُبَيِّنُ حَقِيقَتَهَا:

إنّ هذا المصطلَحَ حديثُ النَّشْأَةِ، ومن أشهَرِ تعريفَاتِ التّنميَةِ المستدامَةِ ما صدر عن اللَّجْنَةِ العالميَّةِ للتّنميَةِ والبيئَةِ أنّها ” التّنميَةُ التي تُلَبِّي احتياجَاتِ البَشَرِ في الوقتِ الحَالِي، دون المَسَاسِ بقدرَةِ الأجيَالِ القادمَةِ على تحقيقِ أهدافِهَا، وترتكِزُ على النُّمُوِّ الاقتصادِيِّ المتكامِلِ المستدَامِ، والإشرَافِ البيئِيِّ، والمسؤوليَّةِ الاجتماعيَّةِ”، وقريبٌ منه مصطلَحُ التّنميَةِ الشّاملَةِ؛ الذي تَطَوَّرَ إلى مصطلَحِنَا هذا. وممّا نَلْحَظَهُ من خلَالِ هذا التَّعريفِ: أنّ التّنميَةَ المستدامَةَ في المفهومِ الغربِيِّ تَرْتَكِزُ على ثلاثَةِ أبعادٍ:

البعدُ الاقتصاديُّ: ويُعْنَى بتلبيَة حاجيَات الفرد الأساسيَةِ، وتحسينِ مستوى معيشَتِهِ.

البعدُ الاجتماعيُّ: ويهتمُّ بتوزيعٍ عَادِلٍ للثّروَةِ، وعنايَةٍ بالنّظَامِ الاجتماعِيِّ.

البعدُ البيئيُّ: ويعمَلُ على المحافظةِ على البيئةِ، وترشيدِ استغلالِ موارِدِهَا، لتبقَى للأجيالِ، والاتِّجَاهِ نحو الطَّاقاتِ المتَجَدِّدَةِ.

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر