إنّ من أعظَمِ النِّعَمِ على العبَادِ وأجلِّهَا قَدْرًا، بِعْثَةَ المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم، قال تعالى: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” آل عمران: 164، فيه صلّى اللّه عليه وسلّم كَشَفَ اللّهُ الغُمَّةَ وأَقَامَ الحُجَّةَ، وأَتَمَّ اللّهُ مكارِمَ الأخلَاقِ، وأخرَجَ النّاسَ من الظّلمَاتِ إلى النّورِ، إنّ اللّهَ أَرسَلَ نبيَّهُ صلّى اللّه عليه وسلّم رحمَةً للعالمين، أي لجميعِ الخَلَائِقِ، وفي مقدّمَتِهِمْ الذين اتَّبَعُوهُ وآمنُوا به، قال تعالى: “بِالْمُومِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ” التوبة: 128. فَجَاءَتْ رسالَتُهُ رحمَةً لهذه الأمَّةِ، خاليَةً من التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ التي فُرِضَتْ على الأمَمِ السّابِقَةِ، جاءت رسالتُهُ سَمْحَةً سَهْلَةً مُيَسَّرَةً، لا إصْرَ فيها ولا أَغْلَالَ، قال تعالى” الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ” الأعراف: 157. وهكذا كان صلّى اللّه عليه وسلّم في جميعِ مَنَاحِي الحَيَاةِ، فقد كان يَعْمِدُ إِلَى الرّأفَةِ والرّحمَةِ والتّيسيرِ على أمّتِهِ والْتِمَاسِ الأَخَفِّ، فإذا قال قوْلًا أو فَعَلَ فِعْلًا تَعَبُّدًا للّهِ، أَخَذَ بالأيْسَرِ والأَخَفِّ، رأفَةً بأُمَّتِهِ وشَفَقَةً عليها، فما خُيِّرَ صلّى اللّه عليه وسلّم بين أمرين إلّا أَخَذَ بأيسرِهِمَا، وصدق اللّهُ إذ يقول:”لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِمْ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ” التوبة: 128. بل وَصَلَ الأمْرُ به صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا رأى أصحابَهُ يحرصون على الاقتدَاءِ به وإتباع سُنَّتِهِ، أنّه كان يترُكُ بعضَ النَّوَافِلِ رحمَةً بأصحابِهِ، وخشيَةَ أن تُفْرَضَ على أُمَّتِهِ، كما تَرَكَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ في شَهْرِ رمَضانَ بعدَ أن قَامَ بهم ليلَةً أو ليلتينِ، وكذلك تَرْكُهُ الخروج للغزوِ مع السَّرَايَا حتى لا يَشُقَّ ذلك على غيرِ القَادِرِ من أمّتِهِ.
الجزء الأول من خطبة الشيخ بوعمرة بن عامر من جامع الجزائر