إذا كان الانتمَاءُ للأوطَانِ والتّعلُّقُ بها فطرَةٌ بشريَّةٌ،رسّختها الشّريعَةُ الإسلاميَّةُ بالأحكَامِ التي سَبَقَ الإشارَةُ إليها؛ فلاشَكَّ أنّ ذلك يستوجِبُ معرفَةَ كيف يكون هذا الانتمَاءُ؟ وما هي متطلّبَاتُهُ؟ فالانتمَاءُ للوطَنِ على نوعين:
الأوّلُ: انتمَاءٌ جَسَدِيٌّ فطريٌّ، يشترِك فيه الإنسَان مع سَائِرِ الكائنَاتِ الحَيَّةِ، وهو انتمَاءٌ إلى منطقَةٍ جغرافيَّةٍ محدّدَةٍ،مجرّدٌ عن المَعَانِي والأَحَاسِيسِ، وهذا النّوعُ يمكن أن تطرَأَ عليه الهجرَةُ إلى غيرِهِ متى ما توفَّرَتْ ظروفٌ حياتيَّةٌ أفضَلَ.
وأمّا النّوعُ الثّاني: فهو انتمَاءٌ روحِيٌّ عاطفِيٌّ فكرِيٌّ: ويكون بالانتمَاءِ إلى تاريخِ الوَطَنِ وأمجَادِهِ، بمعرَفَةِ هذا التّارِيخِ ومعرَفَةِ سرديّتِهِ من خلَالِ الأجدَادِ والآبَاءِ لا المغرضين والأعدَاءِ، فلا يعقَلُ أن ينتسِبَ شخصٌ إلى بَلَدٍ دون أن تكون له درايَةٌ بتارِيخِ قومِهِ وبلدِهِ الذي هو جزءٌ منه، والتّارِيخُ ذاكرةُ الأُمَمِ، فالانتمَاءُ إلى الوطَنِ لا يتأتّى إلا بشعورِ الفرْدِ بأنّه جزءٌ وامتدَادٌ لتاريخِ بلدِهِ وقومِهِ، ولا يحصل ذلك إلّا بالاستفادَةِ من دروسِهِ وعِبَرِهِ، قال تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” يوسف: 111،
– يكون هذا النّوع بالانتمَاءِ إلى العظمَاءِ الّذين صنعوا أمجَادَهُ؛ بمعرفَةِ أخبارِهِمْ وإنجازاتِهِمْ واتخاذِهِمْ قدوةً للأجيالِ، والانتمَاءُ للوطَنِ يكون بالاعترَافِ بفضلِهِمْ، وذِكْرِ جميلِ صنائِعِهِمْ، بالشّكْرِ والامتنَانِ، قال تعالى:”وَالَّذِينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمانِ” الحشر: 10.
ــ يكون الانتمَاءُ بالتّمسُّكِ به وبقِيمِهِ، وامتثَالِ أحكامِهِ، وبدراسَةِ خَصَائِصِ حَضَارَتِهِ وأهم معالمِهَا، والعَمَلِ على استعادَةِ وهْجِهَا وبريقِهَا.
– يكون بالانتمَاءِ إلى واقِعِ الوطنِ، بالوعيِ بالتّحدّياتِ التي يعيشها والأخطارِ المحدقةِ به، والمساهمةِ في الدّفاعِ عنه وعن تراثِهِ وثقافتِهِ، بأن يكون عاملَ بنَاءٍ في مقابِلِ معاوِلِ الهَدْمِ والتَّضلِيلِ والتَّشْوِيهِ. يكون أيضًا بالانتمَاءِ إلى مستقبَلِهِ، بالمساهَمَةِ في بنائِهِ بالنَّجَاح في الحَيَاةِ، بوضْعِ الأهدَافِ الكبيرَةِ والسّعْيِ لتحقِيقِهَا وإنجازِهَا، وهو أفضلُ ما يقدِّمُهُ المرءُ إلى وطنِهِ وقومِهِ حين يكون ناجِحًا في مجالِهِ وتخصّصِهِ، مهما علا أو نزل في مقاماتِ الحياةِ. بهذا يكون الانتمَاءُ الفَعَّالُ والبَنَّاءُ للوطَنِ؛ فلا يكون مُجَرَّدَ مَحَلٍّ للسَّكَنِ، بل يجعله يسكن الفؤاد ويحوِّله إلى رسالةٍ في الحياة،يفرح لفرحه ويأسى لمآسيه. ونحن نتحدّثُ عن الانتمَاءِ للأوطَانِ، لا يفوتُنَا أن نبارِكَ لكلِّ من شَرَّفَ هذا البَلَدَ بإنجَازٍ أو نَجَاحٍ أو عَطَاءٍ في أيِّ شأنٍ من شؤونِ الحَيَاةِ، وكلِّ من هو نقطَةٌ بيضَاءُ ناصعَةٌ في جبينِ بلدِهِ وقومِهِ، وكلِّ من يقدِّمُ جهدًا يزيدُ البَلَدَ قوّةً، ويسلُكُ به مَسلَكَ النّهضَةِ والعُلَا، ممّن يشتغلون في صَمْتٍ وفي خَفَاءٍ، لا ينتبِهُ إليهم أَحَدٌ فيشكرَهُمْ، لكنَّ اللهَ يعرفُهُمْ،وهو يجازِيهِمْ بإحسانِهمْ خيرَ الجَزَاءِ.
الجزء الثالث والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر