أنوار من جامع الجزائر.. كيف تستقبل العام جديد – الجزء الثاني والأخير –

أنوار من جامع الجزائر.. كيف تستقبل العام جديد – الجزء الثاني والأخير –

وأَوَّلُ ما يَنْبَغِي أنْ تَنْطَوِيَ عَلَيْهِ نِيَّةُ المَرْءِ وهو يَسْتَقْبِلُ العَامَ الجَديدَ:

ــ محَاسَبَةُ النَّفْسِ، جاء في الأثَرِ عن عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه أنّه قال: “حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ”.

ــ التّخْطِيطُ للنَّجَاحِ والأَخْذُ بالأسبَابِ:ذلك بأنّ وَاقعَ الإنسَانِ لنْ يَتَغَيَّرَ بالأمنيَاتِ الجميلَةِ ولاَ بالأحلَامِ الوَرْديَّةِ ما لم يُظَاهِرْهَا أَخْذٌ بأسْبابِهَا، وعزيمَةٌ على العَمَلِ والكَدْحِ في سبيلِ تحقيقِهَا، وخُطَّةٌ واضحَةُ المعالِمِ  قابلَةٌ للقيَاسِ جاهزَةٌ لتنفيذِهَا، فالجَهْلُ يَزُولُ بالتَّعَلُّمِ والصَّبْرِ على مطالبِهِ، والفَقْرُ لا يُتَخَلَّصُ منه إلاّ بالكَدِّ والسَّعْيِ الدّائِبِ للكسبِ الحَلَالِ، ومشكلَاتُ الحَيَاةِ وصُرُوفُ الدَّهْرِ وقسوَةُ الظُّرُوفِ لا تُحَلُّ ولا تَنجَلِي إلاّ باتخَاذِ أسبَابِ أَضْدَادِهَا، ففي صحيحِ مسلمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ”، والتَّفويضُ للّهِ بعدَ الأَخْذِ بالأسبَابِ هو مَحْضُ التَّوَكُّلِ والتَّسْلِيمِ.

ــ تنظيمُ الأوقَاتِ واستغلَالُ الفَرَاغِ، فعندَ التَرمذيِّ بسندِهِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ”؛ ولقد اسْتَقَرَّ في ثَقَافَةِ المسْلمِ أنَّ الوَقْتَ هو الحَيَاةُ، وأنّ الإنْسَانَ إنّما هوَ أَيَّامٌ ؛ إذا انْقَضَى يوْمُكَ فَقَدِ انْقَضَى بَعْضُكَ، إنَّ هذَا الوَقْتَ الذي يَتَفَلَّت من بَيْنِ أيدِينَا بِسُرْعَةٍ؛ هو رَأْسُ مَالِنَا، وَمنَ العَجِيبِ أنَّ النَّاسَ بِقَدْرِ شَكْوَاهُمْ منْ سُرْعَةِ جَرَيَانِه وانْقضَائِهِ بقَدْرِ ما يُضَيِّعُهُ أكثَرُهُمْ فيما لا يُفِيدُ ولا يُغْنِي شيئًا.

– التَّوَازُنُ بينَ العَمَلِ للدُّنْيَا والعَمَلِ للآخِرَةِ، فمن المُهِمِّ جِدًّا للإنْسَانِ وهو يَضَعُ خُطَّتَهُ للعَامِ القَابِلِ، أنْ يُوَازِنَ بين مُتَطَلَّبَاتِ الحَيَاةِ وَوَاجِبَاتِهَا والتزَامَاتِهَا، وبيْنَ العَمَلِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ ومقتضيَاتهَا، والحَقُّ؛ أنَّ العَمَلَ للدُّنيَا إذا كان بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ فَلَسَوْفَ يَنَالُ بهِ أَجْرًا في آخِرَتِهِ أَيًّا ما كان دَوْرُهُ في الحَيَاةِ، بَيْدَ أنَّ الآخِرَةَ لها أَعْمَالٌ مخصوصَةٌ، كَأَدَاءِ العبادَاتِ والتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، والأورَادِ، وتربيَةِ الأولَادِ، وإصلَاحِ النَّفْسِ وتهذيبِ أخلاقِهَا ونحوِ ذلكَ منَ الوَاجبَاتِ التي تَقْتَضِي بَرْنَامَجًا بِإِزائِهَا، حتّى لا يَغْرَقَ في الدُّنْيَا ويَنْقطِعَ عنْ آخرَتِهِ، بلْ لا بُدَّ منْ حَدٍّ وَسَطٍ بينَ ذلك، وشَريعَتُنَا الغَرَّاءُ تُعَلِّمُنَا الاتِّزَانَ والاعْتِدَالَ في كُلِّ الأُمُور.

 

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر