أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى مجازر 17 أكتوبر – الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى مجازر 17 أكتوبر – الجزء الأول –

إن التّاريخُ أمانَةٌ في أعنَاقِ الأجيَالِ، يورِّثُهُ السَّابِقُ للاَّحِقِ، وهو ذاكرَةُ الأمَّةِ الحَيَّةِ، بأحداثِهِ المؤلمَةِ والمشرقَةِ، وكُلٌّ فيه دروسٌ وعِبَرٌ، فيها معالِمُ هاديةٌ لمستقبَلٍ مَاجِدٍ، قال تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” يوسف: 111. وتاريخُ الجزائِرِ ملِيءٌ بالبطولَاتِ، زَاخِر بالتّضحيَاتِ الجسيمَةِ الغاليَةِ، ملهِم لكلِّ الشّعوبِ المستضعَفَةِ في الأرضِ، نَشْرُف بالانتمَاءِ إليه، ونَعتَزُّ باستذكارِهِ في كلِّ مناسبَة تهلّ علينا بصفحَة مشرِقَة متجدِّدَة من تاريخِنَا الخَالِدِ، قال تعالى: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ” الرعد: 5، وقد مَرَّتْ بنا أَمْسِ ذكْرَى مؤلِمَةٌ من أحدَاثِ تاريخِ ثورتِنَا المجيدِ، ألا وهي مَجَازِرُ السّابِعِ عشرَ من شهرِ أكتوبر، من عَامِ واحدٍ وستّين وتسعمِائَةٍ وَأَلْفٍ، التي تذكِّرنَا بشاعَتُهَا بجرائمه الاستدمَارِ ووحشيَّتِهِ التي اسودّ بها سِجِلُّهُ الدَّامِي في ذاكرَةِ التّاريخِ،  ومُلَخَّصُ الأحدَاثِ يَتَمَثَّل في محاوَلَةِ الإدارَةِ الاستدماريَّةِ كَتْمَ صَدَى الثّورَةِ الذي بَلَغَ شوارِعَ باريس، من خلَالِ الوحشيَّةِ التي بَطَشَتْ بالمتظاهرين السّلميين الجزائريين، الذين خرجوا في هذا اليومِ رَفْضًا لقرَارِ حَظْرِ التِّجْوَالِ بباريس وضَوَاحِيهَا، الذي يشمَلُ العُمَّالَ الجزائريين على وَجهٍ اخص  حيث أاضحت حركة هؤلاء مقيّدَةً من االثامنة والنّصفِ مساءا إلى الخامسة والنّصفِ صباحًا، وأثناءَ تجمعِ الجزائريين في الساحاتِ العامةِ للتّنديدِ بقرَارِ المستعمِرِ، لم تتورَّع أجهزَة الأمنِ الفرنسيِّ عن استخدَامِ الرَّصَاصِ الحَيِّ في مواجهَةِ المتظاهرين، الذين تقيَّدوا حرفِيّا بتعليمَاتِ قيادَاتِ الثّورَةِ، القاضيَةِ بعدَمِ استعمَالِ الأسلحَةِ والاكتفَاءِ برفعِ الرَّايَاتِ واللّافتَاتِ المُطَالبَةِ بإلغَاءِ الحَظرِ والمُطَالبَةِ باستقلَالِ الجزائِرِ، تَدَخَّلَتْ الشّرطَة الفرنسيَّة بوحشيَّةٍ وشرعت في قَمْعِ المتظاهرين، فَقَتَلَتْ العشرَاتِ منهم عمْدًا في الشّوارِعِ ومحطَّاتِ مِتْرُو الأنفَاقِ، وألقت بآخرين من الجُسُورِ في نَهرِ السّين، وقد بلغ مجموعُ من استشهدوا في هذه المجازِرِ ما يربُو على ثلاثمِائةِ شهيدٍ، كما زجت بالآلاف في السجون يسومونهم ألوان العذاب،  وقد تمّت هذه المجازِرُ تحت مَرْأَى ومَسْمَعٍ من الصَّحَافَةِ العالميَّةِ، التي وَثَّقَتْ الجرائِمَ البشعَةَ وَوَصَفَتْهَا بأنّها أَعْنَفُ قَمْعٍ لمظاهرَةٍ في أوروبا الغربيَّةِ في التّاريخِ المعاصِرِ، ولا يُفَسِّرُ هذه القسوَةَ والقُوَّةَ الغاشمَةَ في قَمْعِا لمتظاهرين غير الجنون الذي أَصَابَ السّلطَاتِ الاستدماريّةِ خوفًا من اندلَاعِ الثّورَةِ في شوارِعِ فِرَنْسَا، بعد ما كانت تُرَاهِنُ على كَتْمِ أنفاسِهَا في الجزائِرِ.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر