أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى ثورة نوفمبر 1954- الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى ثورة نوفمبر 1954- الجزء الأول –

لقد سنَّ الله لعباده سنَّة التَّدافع، فأوجب على أمة الإسلام أن تنصرَ الحقَّ، وتبذلَ في سبيله ما تستطيع، وتنهج للوصول إليه كلَّ سبب مشروع، وقد ابتلى الله عز وجل أمة الإسلام بغزو الصليبيين لديارهم دهرا من الزمن، فانتهكوا الأعراض؛ واستباحوا الحرمات؛ ومسخوا عقيدة التوحيد، وعاثوا بلغة الأجداد فسادا، فكان لزاما على أمة التوحيد أن تهُبَّ لتخليص ديار المسلمين من الكفرة الغاصبين، وأن تنهض من سباتها، وتستيقظ من رقادها، لتحطيم قيود المستدمر الغاشم، حاذيها في ذلك بطولات خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص من الصحب الكرام، وصلاح الدين الأيوبي والمظفَّر قطز والظاهر بيبرس ومحمد الفاتح، وغيرهم من أبطال هذه الأمة، فاستندت أمة الخيرية إلى ماضيها، وتشبَّعت منه بزادها، وأخذت منه بُلْغتها، فأشعلت نار الجهاد المبارك تحت راية الإسلام في ربوع هذا البلد المسلم الأبي، فقامت ثورات مجيدة هنا وهناك على يد المخلصين من أبناء هذا الوطن العزيز، من أمثال الأمير عبد القادر والشيخ المقراني والشيخ الحداد ولالا فاطمة نسومر رحمهم الله تعالى أجمعين، وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكر بطولاتهم، وبقيت قوة الحق تصارع شوكة الباطل بين أخذ ورد، وبين كر وفر، كلما خبت ثورة اتقدت أخرى، وكلما استشهد رجال خَلَفَهُم أبطال، سنَّةَ الله في خلقه إلى أن حانت ساعة الحقِّ، فهبَّ البواسل في نوفمبر 1954 لتحرير البلاد من الاستبداد، وتطهيرها من رجس الأنذال والأوغاد، فأعلنوها مدوِّيةً في سماء العالمين: الله أكبر على كل من طغى وتجبَّر، الله أكبر على من خرَّب البلاد ودمَّر، الله أكبر على من انتهك الأعراض وعربد، الله أكبر على من أزهق الأنفس وشرَّد، الله أكبر على من طمس عقيدة التوحيد، الله أكبر على من مسخ لغة القرآن المجيد، فسخَّر الله لهذا البلد الأمين رجالا من المخلصين، تسلحوا بنور العلم والهدى، فاتحدوا في وجه المستدمر، وصبروا على الأذى والتنكيل، وأنكروا ذواتهم في سبيل المجموع، وامتزج في دمائهم حب الدين والوطن، فكانا في نظرهم وجهين لعملة واحدة، إنهم فتية آمنوا بربهم، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، إنّ نوفمبرَ مصدرُ عزّنا، وفخرُ أمّتنا، ومنبعُ قوّتنا، ومناطُ وَحدتنا، فكما كان فاتحةَ خيرٍ على وطننا الجزائرِ، وصنعَ ملحمة ثورة التّحرير المباركة، ينبغي أن يبقى مبعثَ سعادةٍ لنا، ومصدرَ مجدٍ لأجيالنا، أمة الوفاء: إننا اليوم بعد سبعين سنةً مضت على الفاتح من نوفمبر العام 1954، تعودُ بنا الذّكرى إلى تاريخ مجيد يتأبَّى على النسيان، إنّه يومٌ من أيّام الله الخالدة، وجب التّذكيرُ بها، لتبقى منقوشةً في الذّاكرة لا تُنسى، ومرسومةً في الوجدان لا تُمحى، كما قال الله تعالى لنبيّه موسى عليه السلام: “وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ” الرعد: 5، وحُقّ للفاتح من نوفمبر أن يكون يوما من أيّام الله، تجلّت فيه القدرة الإلهيّة، واندلعت الثّورة تزفّ بشائر النّصر، وتحقّق الوعد بالتّمكين.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر