إِنَّ سُنَّةَ اللّهِ الحَكِيمَةَ في كَوْنِهِ، وتدبيرَهُ القَويمَ في خَلْقِهِ، اقتضَتْ مُرُورَ اللَّيَالِي والأَيَّامِ، وتَعَاقُبَ الشُّهُورِ والأعوَامِ، تَبَعًا لحَرَكَتَيِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، آيتينِ عظيمَتَيْنِ منْ آياتِ اللّهِ الكُبْرَى، قال تعالى: “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا” الإسراء: 12، ومن آياتِ اللّهِ البَاهِرَةِ المتعلِّقَةِ بالزَّمَنِ، أنْ جَعَلَ السَّنَةَ الهجريَّةَ اثنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، حِسَابًا دَقِيقًا، وخَصَّ منهَا أربعَةً، فكَانَتْ حُرُمًا، قَالَ تَعَالَى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ” التوبة: 36. والأَشْهُرُ الحُرُمُ كَمَا أخبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ أرْبعَةٌ: ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: “ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَشَهْرٌ فَرْدٌ، هُوَ شَهْرُ رَجَبٍ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ”. اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وشَعْبَانَ، وبَلِّغْنَا رَمَضَانَ. إِنَّ شَهْرَ رَجَبٍ من أشهُرِ اللّهِ الحُرُمِ، سُمِّيَ كذلكَ لأنَّهُ شَهْرٌ مُعَظَّمٌ في الجاهليَّةِ والإِسْلَامِ، إذِ الرَّجْبُ هو التّعظيمُ والتّبجيلُ والإجلَالُ، وقَدْ نُسِبَ لقَبِيلَةِ مُضَرَ العَرَبِيَّةِ، فقيلَ “رَجَبُ مُضَرَ” لأنّها كَانتْ أكثَرَ القَبَائِلِ ترجيبًا لَهُ وَتَعْظِيمًا، وقد أَقَرَّ الإسلَامُ هَذَا الإجْلَالَ للشَّهْرِ عَلَى لسَانِ سَيِّدِنَا رسُولِ اللّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، فقد جَاءَ في فضَائِلِ الأَوْقَاتِ لأبي بَكْرٍالبيهقِيِّ عن سيِّدِنَا عبْدِ اللّهِ بنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ عزّ وجَلَّ: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ” التوبة: 36، إنَّ لشَهْرِ رَجَبٍ مِيزَةً؛ وأَيَّةُ ميزَةٍ، فهوُ شَهْرُ إحْكَامِ الزَّرْعِ والاعْتِنَاءِ به، ليسْتَوِيَ سُوقُهُ، ويَقْوَى عُودُهُ،وعن فضلِهِ يقُولُ الشَّيْخُ أبو بَكْرٍ الوَرَّاقُ البَلْخِيُّ: “شَهْرُ رَجَبٍ شَهْرٌ لِلزَّرْعِ، وشَعْبَانُ شَهْرُ السَّقْيِ لِلزَّرْعِ، ورَمَضَانُ شَهْرُ حَصَادِ الزَّرْعِ”، وعنهُ أيضًا رضِيَ اللّهُ عنهُ أنَّهُ قَالَ: “مَثَلُ شَهْرِ رَجَبٍ مَثَلُ الرِّيحِ، ومَثَلُ شَعْبَانَ مثَلُ الغَيْمِ، وَمَثَلُ رَمَضَانَ مَثَلُ القَطْرِ”. وقَالَ العَلَّامَةُ ابنُ رَجَبٍ الحنبَلِيُّ رحمَهُ اللّهُ تعالى في لَطَائفِ المَعَارِفِ مُوَكِّدًا خَيرِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ وبَرَكَتَهُ: “شَهْرُ رَجَبٍ مِفْتَاحُ أَشْهُرِ الخَيْرِ والبَرَكَةِ”، وقَال أيضًا: “جَدِيرٌ بِمَنْ سَوَّدَ صَحِيفَتَهُ بِالذُّنُوبِ أَنْ يُبَيِّضَهَا بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَبِمَنْ ضَيَّعَ عُمْرَهُ فِي البِطَالَةِ أَنْ يَغْتَنِمَ فيهِ مَا بَقِيَ مِنَ العُمُرِ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر