أنوار من جامع الجزائر.. فضائل شعبان – الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. فضائل شعبان – الجزء الأول –

لقدْ هَلَّ علينا هِلَالُ شَعْبَانَ، ضَيْفًا عَزِيزًا، وزَائِرًا كَرِيمًا، أَعْقَبَ شَهْرَ رَجَبٍ الحَرَامِ الَّذِي وَقَفْنَا على كريمِ فَضَائِلِهِ في مَطْلَعِهِ، ويَسْبِقُ شَهْرَ رمَضَانَ العَظِيمِ الذي سَنُخَصِّصُ له حَيِّزًا في حِينِهِ، إنّه شَهرٌ يَتَشَعَّبُ فيه الخيرُ ويَكثُرُ، فلَهُ من اسْمِهِ النَّصِيبُ الوَافِرُ. إنّهُ شَهْرُ شَعْبَانَ الخَيْرِ، حَرِصَ فيه سَلَفُ هذه الأُمَّةِ على اغتنَامِ أَوْقَاتِهِ في الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ، تَأَهُّبًا لرمَضَانَ شَهْرِ المَكْرُمَاتِ، يقُولُ الشَّيْخُ أبو بَكْرٍ الوَرَّاقُ البَلْخِيُّ: “شَهْرُ رَجَبٍ شَهْرٌ لِلزَّرْعِ، وشَعْبَانُ شَهْرُ السَّقْيِ لِلزَّرْعِ، ورَمَضَانُ شَهْرُ حَصَادِ الزَّرْعِ”، وَقَالَ الشَّيْخُ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ رحمَهُ اللّهُ تعَالَى: “السَّنَةُ شَجَرَةٌ، وَالشُّهُورُ فُرُوعُهَا، وَالأَيَّامُ أَغْصَانُهَا، وَالسَّاعَاتُ أَوْرَاقُهَا، وَأَنْفَاسُ الْعِبَادِ ثَمَرَتُهَا، فَشَهْرُ رَجَبٍ أَيَّامُ تَوْرِيقِهَا، وَشَعْبَانُ أَيَّامُ تَفْرِيعِهَا، وَرَمَضَانُ أَيَّامُ قَطْفِهَا، وَالْمُؤْمِنُونَ قُطَّافُهَا”. وإنَّ من أَوْكَدِ ما يَنْبَغِي للمُسْلِمِ أن يَحْرِصَ عليه في شَهْرِ شَعْبَانَ قَرَاءَةَ القرْآنِ آناءَ اللّيلِ وأَطْرَافَ النَّهَارِ، فقد نُقِلَ بالأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عن العَارِفِينَ باللّهِ الاسْتِكْثَارُ من تِلَاوَةِ كتابِ اللّهِ تعَالَى؛ والمُدَاوَمَةُ على مدارَسَتِهِ في هذا الشَّهْرِ، قال سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ : “كَانَ يُقَالُ شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرُ القُرَّاءِ” وكانَ حبيبُ بنُ أبِي ثَابِتٍ إذَا دَخَلَ شَعبَانُ قَالَ: “هذَا شَهْرُ القُرَّاءِ”، وكَانَ عَمْرُو بنُ قَيْسٍ المُلَائِيُّ إذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ، وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ القُرْآنِ. لَقَدْ ثَبَتَ في السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللّهِ لِصِيَامِ شَهْرِ شَعْبَانَ، فعندَ أبِي دَاوُدَ عن عبدِ اللّهِ بنِ أبِي قَيْسٍ أنّه سَمِعَ عَائِشَةَ رضيَ اللّهُ عنهَا تقُولُ: “كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصُومَهُ: شَعْبَانُ ثمَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ”. وَرَوَى مسلِمٌ في صَحِيحِهِ عن أبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائشَةَ رضيَ اللّهُ عنهَا عن صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: “كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا”. وقد قيلَ في عِلَّةِ صَوْمِ أَيَّامٍ من شَعْبَانَ ما جَاءَ في لَطَائِفِ المَعَارِفِ: “أنَّ صِيَامَهُ كالتَّمْرِينِ على صِيَامِ رَمَضَانَ، لِئَلَّا يَدْخُلَ في صَوْمِ رَمَضَانَ على مَشَقَّةٍ وكُلْفَةٍ، بل قَدْ تَمَرَّنَ على الصِّيَامِ واعْتَادَهُ، وَوَجَدَ بِصِيَامِ شَعْبَانَ قبلَهُ حَلَاوَةَ الصِّيامِ ولذَّتَهُ، فَيَدْخُلُ في صِيَامِ رَمَضَانَ بِقُوَّةٍ ونَشَاطٍ، ولمَّا كانَ شعْبَانُ كالمقَدِّمَةِ لِرمَضَانَ شُرِعَ فيه ما يُشْرَعُ في رَمَضَانَ من الصِّيَامِ وقِرَاءَةِ القُرْآنِ، ليَحصُلَ التَّأَهُّبُ لتَلَقِّي رَمَضَانَ، وَتَرتَاضَ النُّفُوسُ بذَلِكَ على طَاعَةِ الرَّحْمَنِ”.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر