لَقَدْ بَرَع المُسَلِمونَ فِي عَصَورِهِمْ المُتَقَدِّمَةِ فِي شَتَّى صُنُوفِ العُلُومِ وَالمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَأَبْدَعُوا فِي العُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَكَانَ لَهُم السَّبْقُ فِي أَكْثَرِهَا مِمَّا تَقُومُ عَلَيْهِ حَضَارَةُ اليَوْمِ، كَعِلْمِ الْجَبْرِ وَالبَصَرِيَّاتِ وَالفَلَكِ وَنَحْوِهِ، وَلَا تَزَالُ الحَضَارَةُ الإِنْسَانِيَّةُ اليَوْمَ عَالَةً عَلَى أُسُسِهَا وَقَوَاعِدِهَا، وَاشْتُهِرَ فِيهَا عُلَمَاءُ ذَاعَ صِيتُهُمْ، وَلَمَعَ نَجْمُهُمْ فِي سَمَاءِ الحَضَارَةِ وَالبَحْثِ العِلْمِيِّ،كَالبَيرُونِيِّ وَابْنِ الْهَيْثَمِ وَابْنِ سِينَا وَالخَوَارِزْمِيِّ وَالكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ. وعِرْفَانًا منَّا بِمَكَانَةِ الطَّلَبَةِ والتّلاميذِ وَدَوْرِهِمْ فِي نَهْضَةِ الأُمَمِ وَبِنَاءِ مُسْتَقْبَلِهَا، فَهم بِحَقٍّ صَفْوَةُ المُجْتَمَعِ، وقَلْبُ الأُمَةِ النَّابِضُ بِالحَيَاةِ، وَقَادَةُ مُسْتَقْبَلِهَا، يَحْمِلُونَ هُمُومَهَا، وَيَدَافِعُونَ عَنْ وُجُودِها، وَيَعِيشُونَ قَضَايَاهَا، رأينا مِنَ المُنَاسِبِ جِدًّا أَنْ نُسْدِيَ لَهُمْ بَعْضَ التَّوْجِيهَاتِ فِي شَكْلِ رَسَائِلَ أَخَوِيَّةٍ، تَكُونُ مَعَالِمَ هَادِيَةً فِي خِضَمِّ مَا يَمُوجُ بِهِ العَالَمُ مِنْ أَفْكَارٍ مُتَنَاقِضَةٍ قَدْ يَنْجَرِفُ إلَيْهَا مِنْ لَيْسَتْ لَهُ حَصَانَةٌ كَافِيةٌ مِنْ فِكْرٍ وَتَجْرِبَةٍ. وَأَوَّلُ هَذِهِ الرَّسَائِل:النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ: وَهِيَ أَوَّلُ وَأَهَمُّ عُدَّةٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ المُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ فِي جَمِيعِ مَشَارِيعِهِ وَأَعْمَالِه،لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كما فِي الصَّحِيحَينِ: “إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”؛ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ طالِبٍ وتلميذٍ أنْ تَنْطَوِيَ سَرِيرَتُهُ عَلَى نِيَّةٍ صَالَحَةٍ، أَيًّا مَا كَانَ تُخَصُّصُهُ وَتَوَجُّهُهُ فِي الحَيَاةِ، وَالَّتِي بِمُقْتَضَاهَا يَقْصِدُ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ،بِوَضْعِ أَهْدَافٍ سَامِيَةٍ لِمَسَارِهِ،
الرّسالَةُ الثّانيَةُ:اغْتِنَامُ الوَقْتِ، وَالأخْذُ بِالأَسْبَابِ، وَالبُعْدُ عَمَّا يَسْتَهْلِكُ العُمْرَ وَالوَقْتَ فِيمَا لَا يَنْفَعُ، فقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ”؛ فَقَدْ يَكُونُ المَرْءُ مَوْهُوبًا وَذَكِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَسُولٌ وَضَعِيفُ الإرَادَةِ، فَغَالِبًا ما تَكُونُ نِهَايَةُ أَمْرِهِ الفَشَلَ الذَّرِيعَ وَالخَيْبَةَ، فَعُلِمَ يقينًا أَنَّ الحِرْصَ وَالهِمَّةَ وَالِاجْتِهَادَ في العملِ، وَمُكَابَدَةَ الأَسْبَابِ ولو قلّتْ المَوَاهِبُ، يُحْدِثُ فَارِقًا كَبِيرًا وَمُبْهرًا.
الرِّسَالَةُ الثَّالِثَةُ:الحَذَرَ، الحَذَرَ أَيُّهَا الطَّلَبَةُ وَالطَّالِبَاتُ مِنَ الغُرُورِ،مَهْمَا كَانَ تَفُوُّقُكُمْ، وَمَهْمَا كَانَتْ مَوَاهِبُكُمْ خَارِقَةً،فَإِنَّ أَوَّلَ خُطُوَاتِ الإِخْفَاقِ هِيَ الغُرُورُ وَالتّعالي،وأخطرُهُ إذا كان التّرفُّعُ والتّكبُّرُ على مَنْ عَلَّمَكُمْ وأَدَّبَكُمْ وأَحْسَنَ إليكم،وَلَقَدْ عَلَّمَتْنَا شَرِيعَةُ اللَّهِ أنَّ مِنْ أَخْلَاقِ المُسْلِمِ التَّوَاضُعَ كما قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ”،
الرِّسَالَةُ الرَّابِعَةُ: أبنائي الطّلبة والطّالبات: إنّ مِنْ أَخْلَاقِ الإِسْلَامِ وَصفَاتِ الكُمَّلِ من الرّجَالِ، الوَفَاءَ لِلْأَهْلِ، وَلِمَنْ عَلَّمَكَ،وَلِمَنْ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْكَ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالوَفَاءَ لأُمَّتِكَ، ولِبَلَدِكَ الَّذِي أَنْتَ جُزْءٌ مِنْهُ، سَوَاءٌ كُنْت مُقِيمًا بِهِ أَوْ مُتَغَرِّبًا عَنْهُ،فَلَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ الشُّرَفَاءِ أَنْ يُدِيرُوا ظُهُورَهُمْ لِأَوْطَانِهِمْ وَلِمَنْ كَانُوا سَبَبًا فِي المَجْدِ الَّذِي هُمْ فِي طَرِيقِهِ، وَلَا أَنْ يَتَنَكَّرُوا لِأَوْطَانِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، فَلَا يَعِيشُون هُمُومَهَا، وَلَا يَحْمِلُونَ قَضَايَاهَا، وَلَا يَهْتَمُّونَ بِشُؤُونِهِا.
الرِّسَالَةُ الخَامِسَةُ وَالأَخِيرَةُ:مِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ اتِّخَاذُ قُدْوَةٍ فِي الحَيَاةِ، وَاِتِّخَاذُ رُفْقَةٍ صَالَحَةٍ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ كَانَتْ انْطِلَاقتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ بنَوَايَا صَادِقَةٍ صَالَحَةٍ سَلِيمَةٍ، وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا انْحَرَفَتْ بِهِمْ دُرُوبُ الحَيَاةِ إلَى مَسَالِكَ كَانَتْ نِهَايَتُهَا تَعِيسَةً،لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحِيطُوا أَنْفُسَهُمْ بِرُفْقَةٍ صَالِحَةٍ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر