شهدنا في هذه الأيَّامِ إقبالًا كبيرًا على الصّالون الدولِيِّ للكتَابِ، من الباحثين والأساتذَةِ من شَتَّى التّخصّصَاتِ، والطّلبَةِ والتّلاميذِ من مختلفِ الأعمارِ، طلبًا لكُتُبٍ ماتعَةٍ،أو بُحُوثٍ ودراسَاتٍ جديدَةٍ نَافِعَةٍ، لإشباعِ نَهَمِهِمْ العلمِيِّ، وهذا يبهِجُ الطّرفَ، ويَسُرُّ النّظرَ، ينشرحُ له الصّدرُ، ويثلِجُ به القلبُ، لأنّه يُبَشِّرُ بالخيرِ الكثيرِ، فالأمّةُ إنّما تنهضُ بانتشَارِ العلومِ فيها، وتَسْمُو وتَرْقَى بالمعارِفِ، فلا عجبَ أن يكونَ أوَّلُ ما نزلَ من القرآنِ الكريمِ “اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” العلق: 1 ــ 5. إنّ فِي دِينِنَا الإِسْلَامِيِّ نُصُوصاً كَثِيرَةً تُشِيدُ بِفَضْلِ طَلَبِ العِلْمِ وَتَحُثُّ عَلَيْهِ، وَتُعْلِي مِنْ شَأْنِ طَالِبِهِ وَمَقَامِهِ، كقولِهِ تَعَالَى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنْمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ” الزمر: 09. بَلْ رَبَطَتِ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَدُخُولِ الجَنَّةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ”. وَمِنْ شَرَفِهِ أَنَّ الْكَائِنَاتِ تَسْتَغْفِرُ لَهُ، فَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ المَخَارِقِ رضي اللّهُ عنه قَالَ: “أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: كَبُرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَتَيْتُك لِتُعَلِّمَنِي مَا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: يَا قَبِيصَةُ، مَا مَرَرْت بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلا مَدَرٍ إلَّا اسْتَغْفَرَ لَكَ”.
وَالمُصَنَّفَاتُ فِي المَكْتَبَةِ الإِسْلَامِيَّةِ زَاخِرَةٌ بِأُمَّهَاتِ الكُتُبِ الَّتِي تُبَيِّنَ فَضْلَ طَلَبِ العِلْمِ وَآدَابَهُ، وَلَعَلَّ مِنْ أَشْهَرِهَا كِتَابُ جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ، لِلإمامِ الحَافِظِ أَبِي عَمْرٍو بْنِ عَبْدِ البَرِّ الأندلسيِّ المالكيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَقَدْ بَيَّنَ فِي فُصُولِهِ فَضْلَ العِلْمِ وَآدَابَ طَالِبِهِ، وَتَطَرَّقَ فِيهِ إلَى الحَدِيثِ عَنْ مَاهِيَّةِ العِلْمِ وَحُدُودِهِ وَأَقْسَامِهِ، وقد قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: “وَالعُلُومُ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ ثَلَاثَةٌ: عِلْمٌ أَعْلَى، وَعِلْمٌ أَسْفَلُ، وَعِلْمٌ أَوْسَطُ. فَالعِلْمُ الأَعْلَى: عِلْمُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الكَلَامُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى ألسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ نَصًّا وَمَعْنَى، وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا جَاءَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَنَّهُ لِأُمَّتِهِ مِنْ حِكْمَتِه. وَالعِلْمُ الأَوْسَطُ: هُوَ مَعْرِفَةُ عُلُومِ الدُّنْيَا الَّتِي يَكُونُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ مِنْهَا بِمَعْرِفَة نَظِيرِه، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، كَعِلْمِ الطِّبِّ وَالْهَنْدَسَة”،انتهى بكلامُهُ. ثُمَّ أَضَافَ لَاحِقًا بَيَانَ أَهَمِّيَّةِ بَعْضِ العُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، كَعِلْم الحِسَابِ لِمَعْرِفَةِ الفَرَائِضِ وَالمَوَاقيتِ، وَعِلْمِ الطَّبِ لِلْمُدَاوَاةِ وَالِاسْتِطْبَابِ. كُلُّ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ العِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ يَشْمَلُ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ جَمِيعًا، وَأنَّ الثَّانِي مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَةِ، الَّتِي إذَا حَصَّلَهَا البَعْضُ بِمَا يَفِي بِحَاجَةِ الأُمَّةِ سَقَطَتْ عَنِ الكَافَّةِ. وَعَلَى هَذَا الأَسَاسِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى العِلْمِ بِمَعْنَاهُ العَامِّ تَشْمَلُ كِلَا النَّوْعَيْنِ، كَمَا هِيَ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ، فاللَّفْظُ العَامُّ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ، وَالحُكْمُ المُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ، مَا لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْ التَّقْيِيدِ.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر