إنَّ شهْرَ رمضَانَ هُوَ شهْرُ الإِمسَاكِ عنِ المُفْطِرَاتِ ومفْسِدَاتِ الصَّوْمِ، فَهُوَ يرَبِّي النَّفْسَ علَى ترْكِ الذُّنُوبِ والسَّيِّئَاتِ، ويَعْمَلُ علَى تهذِيبِهَا بالفَضَائِلِ، وتَحْلِيَتِهَا بالمَكْرُمَاتِ، قالَ جَابِرُ بنُ عبْدِ اللَّهِ الأَنصَارِيِّ: “إذا صُمْتَ فلْيَصُمْ سَمْعُكَ وبَصَرُكَ ولِسَانُكَ عنِ الكَذِبِ والمَحَارِمِ، ودعْ أذَى الجَارِ، ولْيَكُنْ لكَ وقَارٌ وسَكينَةٌ، ولَا تَجعَلْ يوْمَ صَوْمِكَ ويوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً”، قالَ عليهِ السَّلامُ كمَا عندَ ابنِ ماجَهْ منْ حديثِ أبي هريرةَ: “رُبَّ صَائِمٍ ليْسَ لَهُ مِنْ صيَامِهِ إلَّا الجُوعُ، ورُبَّ قائِمٍ ليسَ لهُ من قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ”.
يا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ عنِ الكَذِبِ وشَهادةِ الزُّورِ والغِيبَةِ والبُهْتَانِ، ولَا تُعَرِّضْ صومَكَ للفَسَادِ والبُطلانِ، فقد صَحَّ عنِ الصَّادِقِ المصْدُوقِ كما عندَ البخاريِّ من حديثِ أبي هريرةَ رضيَ الله عنهُ: “منْ لمْ يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ، فليسَ للهِ حاجَةٌ في أنْ يدَعَ طعَامهُ وشرَابَهُ”.
يا باغيَ الشَّرِّ أقصرْ عن السَّفَهِ والهَمَجِيَّة والصِّياحِ والصُّراخِ، وسبِّ الدِّينِ واللَّعنِ وفحشِ الكلامِ وبذِيئِه، فإنَّ كلَّ هذهِ الموبقاتِ منافيَةٌ لحقيقَةِ الصَّومِ، فقد صحَّ في الخَبَرِ كمَا عندَ البخاريِّ من حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ” الصِّيامُ جُنَّةٌ، فلَا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، وإنِ امرؤٌا قَاتلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فليقُلْ إنِّي صَائمٌ، إنِّي صَائمٌ”.
يا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ عنِ الجدَالِ والخُصُومةِ وهُجْرانِ الإخْوَانِ، وإثَارَةِ نَعَراتِ الجاهِلِيَّة، إذِ الخِصامُ سببٌ للضَّغينةِ والحِرمانِ من الخَيرِ، فقدْ صحَّ في الأَثَرِ كمَا عند البخاريِّ من حديثِ عبادةَ بنِ الصَّامتِ أنَّهُ قالَ: خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليخبرَنَا بليلةِ القدْرِ، فتَلَاحَى رجلانِ منَ المُسْلِمينَ فقَالَ: ” خَرجتُ لأخْبِرَكمْ بليلةِ القدرِ، فتلاحَى فلانٌ وفلانٌ، فَرُفِعَتْ، وعسَى أنْ يكُونَ خيرًا لكُمْ، فالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ والسَّابعةِ والخَامسَةِ”، فهلْ ترضَى أخِي الصَّائمَ أنْ تُحْرَمَ خيراتِ الشَّهْرِ الفَضِيلِ بسَبَبِ خصُومةٍ أو قَطِيعَةِ رَحِمٍ أوْ شَحْنَاءَ؟
يا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ عن الغفْلةِ والإعراضِ عنْ ذِكْرِ اللهِ، وإضَاعةِ الأوقاتِ فيمَا لا نفْعَ فيهِ، بَلْهَ الوقُوعَ ِفي المعَاصِي والمُوبقَاتِ، قالَ تعالَى متوعِّدًا أهلَ الغَفْلَةِ: ” ومَنْ أعرَضَ عن ذِكْرِي فإنَّ له مَعِيشَةً ضنكًا ونحْشُرُهُ يوْمَ القيَامَةِ أعْمَى” طه: 124، وقالَ الحسنُ البصريُّ رحمهُ الله: ” من عَلامةِ إعراضِ اللهِ عنِ العبدِ أن يَجْعَلَ شُغْلَهُ فيمَا لَا يَعْنِيهِ، خِذْلانًا منَ اللهِ عزَّ وَجَلَّ”. أيُّهَا المُحْسِنُونَ: هذَا هُوَ ذَا شهْرُ المَكْرُمَاتِ، وزمَنُ الأُعْطياتِ، ومحَلُّ البَرَكاتِ، فلَا تُفَوِّتُوا فُرْصَتَهُ بالغَفَلَات، واعْلَمُوا رحمكُمُ اللهُ أنَّ منْ لمْ يَرْبَحْ في هذَا الشَّهْرِ، ففِي أيِّ وقِتٍ يَرْبَحْ؟، ومنْ لمْ يقْرُبْ فيهِ من مَوْلَاهُ، فهُوَ علَى بُعْدِهِ لمْ يَبْرَحْ. اللّهمّ لا تَدَعْ لنا في هذا المَقَام ذَنْبًا إلّا غفرْتَهُ، ولا هَمًّا إلا فَرَّجْتَهُ، ولا دَيْنًا إلّا قَضَيْتَهُ، ولا مريضًا إلّا شَفَيْتَهُ، ولا عَدَوًّا إلّا خَذَلْتَهُ وقَصَمْتَهُ، اللّهمّ انْصُرْ مَن نَصَرَ الدّينَ، واخْذُلْ من خَذَلَ المُسْلِمِينَ. اللهُمَّ تقبَّلْ منَّا الصِّيامَ والقِيامَ والقُرآنَ، اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لرَمضانَ، وتسَلَّمْهُ منَّا متَقَبَّلًا.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر