إنَّ ما تنتهِجُهُ آلةُ الإجرَامِ الصُّهيونيَّةُ في قِبْلَة الأنبياء والمرسلينَ، هوَ بحقٍّ امتدادٌ لما فَعَلَه الأوروبيونَ في أمريكَا حينَمَا أبادُوا سكَّانَهَا الأصْلِيِّين -الهنودَ الحمرَ- ظنًّا منهُمْ أنَّهُم سَيَرِثُون الأرضَ، ويخلفُونَ أهْلَهَا. ولقد كذَّبَ الواقعُ هذهِ الأكذوبةَ المزعُومَةَ، واقرؤوا التاريخَ ينبئْكُم عمَّا أرادَ الصَّليبيونَ فِعْلَه في بلادنا الطَّاهرَة. ألمْ يستوطِنُوا أرضَنَا قرنًا وثُلُثَ القرنِ؟، زعمًا منهم أنَّهُم قد أبادُوا شَعْبنا، وطَمَسوا حضارَتنا، وسلخُونا عن مَبَادئنا، وظنُّوا أنَّهُم خَالِدونَ في أرضنا، فشيَّدُوا وبَنَوْا وعَمَّرُوا، كما وَصَفَ اللهُ قَوْمَ عادٍ بقوله: “أَتَبْنُونَ بكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُون، وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُم تَخْلُدُونَ، وإذا بَطَشْتُم بَطَشْتُم جَبَّارِينَ” الشعراء: 128-130. ولما رَامُوا الاحتفالَ بمئويَّةِ استيطَانِهم القذِرِ، فاجأَهُم الجزائريُّونَ بحَضَارةٍ ضاربةٍ بجُذُورهَا في أعماقِ التَّاريخ. فيؤسِّسُ العلَّامةُ الأستاذُ عبدُ الحميدِ بنُ باديسَ جمعيةَ العلماءِ المسلمينَ الجزائرِيِّين، شاهدةً على تمسُّكِ الجزائر بعُرُوبتها وإسلامِها وتارِيخِها، فردَّدَ أشبالُ الجزائر في تلكَ الأيَّام العصيبةِ نشيدًا لا يزالُ صدَاهُ يدَوِّي في الأَعْمَاقِ، ويصِلُ مَدَاه إلى الآفاق: شعبُ الجزائرِ مسلمٌ وإلى العُرُوبةِ ينتسِبْ. شعبَ فلسطينَ الأبِيَّ: خُذِ العِبْرَةَ والعِظَةَ من إخوانِك الجزائريين: تَمَسَّكْ بدِينِكَ، واعتصمْ بقرآنك، ولَمْلِم جِراحَك، ووَحِّدْ صفُوفَك، وتشبَّثْ بثقافتك ومبادئِكَ، واجمَعْ جُهودَك إلى جهُود المخْلِصين من أمَّتِك عرْبًا ومُسْلمين؛ وأحْرارِ العَالِم، وانطلقْ قدمًا نحو السُّؤْدَد والعليَاءِ، ولا تلتفِتْ إلى أصْواتِ التَّيْئِيس والتَّخْذِيل النَّكْراء، فقدْ وعدَكُم اللهُ تعالى بالنَّصْرِ المؤزَّرِ، يا غزةُ الأبيةُ، ويا بيتَ المقدس ِالشَّامخ: إنَّ لِمَا تقدِّمُونه من دمَاءٍ زاكية، وأرواحٍ طاهرةٍ، سلفًا عندَ إخوانِكُم في جزائِرِ العزَّة والكرَامة والجهادِ والشَّهادةِ، لقدْ قدَّم شعْبُنا أكثرَ من مليونٍ ونصفِ المليونِ من الشُّهَداء الأبرَارِ، من أجلِ دَحْرِ أعتَى قوَّةٍ اسْتِعْمَاريَّةٍ، فلَا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا، إنَهَا رسالةُ الصُّمُود والعزَّة، يَزُفُّها إليكُم شهداءُ الجزائرِ، حينَمَا سطَّرُوا بطُولاتهَا بأحرفٍ من ذَهَبٍ، مستلْهِمِين الإرادَةَ الصُّلبَةَ؛ والعزيمَةَ القويَّة منْ فتحِ عمرَ رضي الله عنهُ لبيتِ المقدِسِ، ومن بعدِه صلاحُ الدِّين الأيوبيُّ، وانتصاراتِ المظفَّرِ قُطُز، والظاهِرِ بيبرس، وفتوحاتِ يوسفَ بنِ تاشفِينَ ومحمَّدٍ الفاتِحِ، وجِهَاد الأميرِ عبدِ القادر الجزائريِّ، كمَا لا نَنْسَى مُقَاوَمَاتِ الشَّيْخِ المُقْرَانيِّ، وبُوعْمَامةَ وبَوبَغْلَةَ، ولالا فاطِمَة نْسُومَر، وغَيرِهمْ من عظماءِ الإسْلَام. إنَّ موقفَ الجزائرِ الثَّابتَ والراسِخَ، والتزامَ دولتنا رسميًّا وشعبيًّا بقضيَّة فلسطينَ العادلةِ شرفٌ ووسامٌ نُهْديهِ للأبْطَالِ البواسِل، والشُّهداء الأطهارِ، والثَّكالى الصَّابرات، والأيتَامِ الأبرياءِ، في أولَى القِبْلتينِ، ومسْرَى سيِّد الثَّقَلَيْنِ.
الجزء الثاني من خطبة الجمعة من جامع الجزائر