إنّ رحمَةَ النّبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليست للمؤمنين فَحَسْبُ، بل جاءت لجمِيعِ الخَلَائِقِ، فَشَمْلَتْ الإنْسَ والجِنَّ، والحَيَوَانَ والجَمَادَ والنَّبَاتَ، وحتى الملائِكَةَ، وأَحَاطَتْ رحمَتُهُ صلّى اللّه عليه وسلّم بكُلِّ شيءٍ، حتّى شمِلَتْ الكَافِرَ والمُنَافِقَ، فقد روى مسلِمٌ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: “قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً”. تلك الرّحمَةُ التي تَجَلَّتْ عندما صَدَّهُ أهلُ الكفرِ وأخرجُوهُ من الطَّائِفِ وسَلَّطُوا عليه غِلْمَانَهُمْ، ولنَسْتَمِعَ إلى رسولِ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يَقُصُّ علينا ما حَدَثَ، ففي الصّحيحين عن عائشةَ رضي اللّهُ عنها أنّ رسولَ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: “فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا”. ما أعظمَهُ من نَبِيٍّ، وما أعظمَهَا من رحمَةٍ، ولقد استَجَابَ اللّهُ دُعَاءَ نبيِّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخرَجَ من أصلَابِهِمْ المُوَحِّدين العابدين. وفي الصّحيحين أنّ رسولَ اللهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: “إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءُ”؛ فَمَا أحوجَنَا أيّها المؤمنون إلى التَّخَلُّقِ بِخُلُقِ الرّحمَةِ، اقتدَاءً بنبيِّ الرّحمَةِ صلّى اللّه عليه وسلّم. اللّهم ارحمنَا برحمتكَ الواسعَةَ التي وَسعَتْ كلَّ شيءٍ، يا رحمَنَ السَّمَاوَاتِ والأرضِ، لا تَكِلْنَا إلى أنفسِنَا طَرْفَةَ عينٍ ولا إلى أَحَدٍ من خَلْقِكَ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الشيخ بوعمرة بن عامر من جامع الجزائر