أنوار من جامع الجزائر.. دروس من ذكرى الإسراء والمعراج – الجزء الثاني والأخير –

أنوار من جامع الجزائر.. دروس من ذكرى الإسراء والمعراج – الجزء الثاني والأخير –

لَقَدْ كَانَ لِهَذِهِ الرِّحْلَةِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ ازْدَادَتْ ثِقَتُهُ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَاسْتَبْشَرَ بِمَا سَيَأْتِي مِنْ نَصْرٍ وَتَمْكِينٍ، وَتَجَلَّى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عِنْدَمَا عَرَضَ دَعْوَتَهُ عَلَى القَبَائِلِ بَعْدَ رِحْلَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ: “مَنْ يُؤْوِينِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي”، فَكَانَتْ بَيْعَةُ الأَنْصَارِ الِاسْتِجَابَةَ العَمَلِيَّةَ لِهَذَا النِّدَاءِ، فَقَدَّمُوا لِلنَّبِيِّ الْمَأْوَى وَالنُّصْرَةَ لِتَحْقِيقِ مَهَمَّتِهِ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَةِ الإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ رِحْلَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ تَخْفِيفًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَتْ إِعْدَادًا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ بِأَكْمَلِهَا لِتَحَمُّلِ الأَمَانَةِ وَالمُضِيِّ قُدُمًا رَغْمَ الأَذَى وَالتَّحَدِّيَاتِ، قَالَ الإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ زَادُ الْمَعَادِ: “إِنَّ الإِسْرَاءَ وَالمِعْرَاجَ كَانَا تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَفْعًا لِرُوحِهِ، وَتَعْرِيفًا لَهُ بِعِظَمِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، لِيَقْوَى عَلَى تَحَمُّلِ الْأَعْبَاءِ الَّتِي تَنْتَظِرُهُ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ”، وَهَكَذَا كَانَتْ هَذِهِ الرِّحْلَةُ المُبَارَكَةُ رِسَالَةً لِكُلِّ مُسْلِمٍ، أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَأَنَّ الِابْتِلَاءَ مُقَدِّمَةٌ لِلتَّمْكِينِ، وَأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يَتَخَلَّفُ لِمَنْ صَبَرَ وَثَبَتَ. إِنَّ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا دُرُوسًا عَظِيمَةً، نَسْتَحْضِرُهَا فِي وَاقِعِنَا المُعَاصِرِ، خَاصَّةً وَنَحْنُ نَشْهَدُ صُمُودَ شَعْبِنَا الأَبِيِّ فِي غَزَّةَ العِزَّةِ، هَذَا الشَّعْبُ الَّذِي يُوَاجِهُ المِحَنَ وَالعُدْوَانَ بِثَبَاتٍ وَإِيمَانٍ، هَذَا الشَّعْبُ الَّذِي عَلَّمَ العَالَمَ أَعْظَمَ مَعَانِي الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ، وَكَمَا كَانَتْ رِحْلَةُ الإِسْرَاءِ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا لَاقَاهُ مِنْ أَذًى وَابْتِلَاءٍ، فَإِنَّ صُمُودَ أَهْلِ غَزَّةَ اليَوْمَ يُمَثِّلُ صُورَةً مُشْرِقَةً لِلثَّبَاتِ الَّذِي يَقُودُ إِلَى النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَرَغْمَ الحِصَارِ وَالدَّمَارِ وَسُقُوطِ عَشَرَاتِ الآلَافِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، هَا هِيَ غَزَّةُ تَقِفُ شَامِخَةً عَلَى أَحَدِ أَهَمِّ ثُغُورِ الإِسْلَامِ، مُدَافِعَةً عَنْ شَرَفِ الأُمَّةِ وَعَنْ قَضِيَّةِ المَسْجِدِ الأَقْصَى، هَذَا المَسْجِدُ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ مِحْوَرًا فِي رِحْلَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، لِيَبْقَى شَاهِدًا خَالِدًا عَلَى ارْتِبَاطِ الأُمَّةِ بِعَقِيدَتِهَا وَقَضَايَاهَا المَصِيرِيَّةِ. إِنَّ انْتِصَارَ أَهْلِ غَزَّةَ اليَوْمَ هُوَ رِسَالَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ مَهْمَا كَانَ الثَّمَنُ هُوَ طَرِيقُ العِزَّةِ، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: “إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” مُحَمَّد: 7، وَهَا نَحْنُ نَرَى كَيْفَ أَذَلَّ اللَّهُ المُحْتَلَّ الغَاشِمَ، وَجَعَلَ أَهْلَ غَزَّةَ رَغْمَ قِلَّةِ العَدَدِ وَالعُدَّةِ نَمُوذَجًا لِلشُّمُوخِ وَالعِزَّةِ وَالكَرَامَةِ. إِنَّ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ وَانْتِصَارِ غَزَّةَ هُوَ اليَقِينُ بِوَعْدِ اللَّهِ، فَكَمَا كَانَ الإِسْرَاءُ تَذْكِيرًا بِأَنَّ بَعْدَ العُسْرِ يُسْرًا، فَإِنَّ صُمُودَ غَزَّةَ يُذَكِّرُنَا بأَنَّ النَّصْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالصَّبْرِ وَالإِيمَانِ، مِصْدَاقً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: “فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ” هود: 49، وَكَمَا أَنَّ المَسْجِدَ الأَقْصَى كَانَ وِجْهَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحْلَتِهِ المُبَارَكَةِ، فَإِنَّ غَزَّةَ اليَوْمَ هِيَ وِجْهَةُ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ يَرَوْنَ فِيهَا رَمْزًا لِلصُّمُودِ وَالكَرَامَةِ وَالعِزَّةِ وَالإِبَاءِ.

فَلْنَسْتَمِدَّ مِنْ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ طَاقَةَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَلْنُوَاصِلِ الدُّعَاءَ وَالعَمَلَ لِنُصْرَةِ أَهْلِنَا فِي غَزَّةَ وَكُلِّ فِلَسْطِينِ.

 

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر