أنوار من جامع الجزائر.. حَقِيقَةَ أخلاق الإسْلَامِ – الجزء الثاني والأخير –

أنوار من جامع الجزائر.. حَقِيقَةَ أخلاق الإسْلَامِ – الجزء الثاني والأخير –

إنّها حَقِيقَةَ الإسْلَامِ العَظِيمِ الذي يَدْعُو إلى بَسْطِ الوَجْهِ وَحُسْنِ الخُلُقِ والسَّمَاحَةِ والأُلْفَةِ والوِئَامِ في أَرْقَى الصُّوَرِ وأَعْلَاهَا، فَالمُؤْمِنُ إِلْفٌ مَأْلُوفٌ، وقد قال النَّبِيُّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ ولَا خَيْرَ فيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ”، وَخَيْر النَّاسِ وَأَحَبُّهُمْ إلى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ أنفَعُهُمْ للنّاسِ، كما قال النَّبِيُّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ»، وقال: “خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ”، ومن أَفضَلُ الخِصَالِ حُسْنُ القَوْلِ مع النّاسِ، إذ يَقُولُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عليه: “الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ”. بل إنّ الإسْلَامَ قد نَقَلَ أَتْبَاعَهُ إلى بُعْدٍ آخَرَ حين اعْتَنَى بِجَبْرِ الخَوَاطِرِ؛ ونَبَّهَ على مُرَاعَاةِ المَشَاعِرِ، وأَشَارَ إلى كَوْنِ الأَذَى المَعْنَوِيِّ قد يَفُوقُ الأَذَى الحِسِّيِّ، بل قد يكُونُ أَشَدَّ وَطْأَةً من ضَرْبِ السَّيْفِ وطَعْنِ الرِّمَاحِ، ففي صحيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ”، ورَوَى أبو دَاوُدَ والنَسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ”، ولنتدبَّر هذا المَوقفَ؛ فقد جَاءَ عند أَحْمَدَ وابنِ حِبَّانَ وغيرِهِمَا عن ابن مسعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّه كَانَ عَلَى شَجَرَةٍ فَهَبَّتْ الرّيح فَكَشَفَت سَاقَيْهِ فَضَحِكَ القَوْمُ من دَقَّتِهِمَا، أَيْ مِنْ نَحَالَتِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا يُضْحِكُكُمْ؟” قَالُوا: “دِقَّةُ سَاقَيْهِ”، قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مُنْ أُحُدٍ”. هذه هي أخلَاقُ الإسلَامِ، وهذه هي صِفَاتُ المسلمين، قُلُوبٌ طاهرَةٌ نَقِيَّةٌ، وأخلَاقٌ فاضِلَةٌ زَكِيَّةٌ، وسَجَايَا وشِيَمٌ مرضِيَّةٌ، ونُفُوسٌ مطمَئِنَّةُ كريمَةٌ، وهِمَمٌ عاليةٌ كبيرةٌ، تجعل المجتمَعَ صالِحًا كريمًا، ينعَمُ أهلُهُ بدِفْءِ الأخوَّةِ والمحبَّةِ الصّادِقَةِ، ويعيشُ أفرادُهُ في ظِلَالِ السّكينَةِ والطّمأنينَةِ، كما قال تعالى: “فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا” آل عمران: 103. وقال: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً” الأنبياء: 92. وكما وَصَفَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولِهِ: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”. ونعيدُ تذكيرَكُمْ بالحديثِ الذي بدأْنَا به، وهو قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ منْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ”، فَانظُرُوا رحمَكُمْ اللّهُ إلى هذه الوَصيَّةِ العظيمَةِ من رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاعْمَلُوا بها تَسْعَدُوا في دُنْيَاكُمْ، وتَضْمَنُوا النَّجَاةَ في أُخْرَاكُمْ، وصَلُّوا رَحمَكُمْ اللّهُ على من أَمَرَكُمْ اللّهُ بالصَّلَاةِ والسَّلَامِ عليه فَقَالَ: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” الأحزاب: 56.

 

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر