أنوار من جامع الجزائر.. حقيقةِ الأمانة – الجزء الثاني-

أنوار من جامع الجزائر.. حقيقةِ الأمانة – الجزء الثاني-

إنّ المتمعِّنَ في حقيقةِ الأمانةِ يجدها تدور حول ثلاثةِ محاورَ كبرى: أمانة العبد مع ربِّهِ، وأمانته مع نفسِهِ التي بين جَنْبَيْهِ، وأمانته مع غيرِهِ من الخلقِ. أمّا المحورُ الأوّلُ، وهو أمانةُ الإنسَانِ مع خالقِهِ، فترجِعُ في مجمَلِهَا إلى حفظِ الإنسَانِ ما عُهِدَ إليه حفظُهُ شرعًا من امتثالِ أوامرِ اللهِ، واجتنابِ نواهيه وزواجرِهِ في كلِّ حركاتِهِ وسكناتِهِ، وفي خلجاتِ قلبِهِ وتقلُّباتِهِ، وحاصلُهُ أن ينقادَ قلبُهُ أوّلًا ثمّ جوارحُهُ ثانيًا لما يُرضي اللهَ سبحانه، إذ الفؤَادُ هو المَلِكُ، والجوارِحُ جندُهُ وخَدَمُهُ، قال عليه الصّلاة والسّلام: “أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ”. وأوّل أمانَةٍ يُسْأَلُ عنها العبدُ تجاه خالقِهِ، هي التّحقّقُ بالإيمَانِ الصّحيحِ، وتوحيدُهُ سبحانَهُ حَقَّ التّوحيدِ، وأمّا المحورُ الثّاني، وهو أمانةُ الإنسانِ مع نفسِهِ فجماعُهَا أن يختارَ الإنسانُ ما يصلُحُ له في دينِهِ ودُنْيَاهُ؛ وينفعُهُ في عاقبتِهِ وأُخْرَاهُ، وللتحقُّقِ بهذا النّوع من الأمانَةِ تجبُ مراقبَةُ الجوارحِ حَقَّ المراقبَةِ، إذ هي التّرجمَانُ العمليُّ لإيمَانِ العبدِ الذي وَقَرَ في القلبِ. وفي هذا الصَّددِ يقول الإمام محمّد بن الفضل: “جوارحُكَ كُلُّهَا أمانَةٌ عندك، أُمِرْتَ بكُلِّ واحدةٍ منها بأمرٍ، فأمانَة العينِ الغضُّ عن المحارِمِ، والنّظرُ بالاعتبارِ، وأمانَةُ السّمعِ صيانتُهَا عن اللَّغوِ وفضولِ الكلامِ، وإحضارُهَا مجالسَ الذِّكْرِ، وأمانَةُ اللِّسَانِ اجتنابُ الغيبَةِ والبهتَانِ ومداومَةُ الذِّكْرِ، وأمانَة الرِّجْل المشيُ إلى الطَّاعَات والتباعدُ عن المعاصي، وأمانَةُ الفَمَ ألّا يتناول به إلّا حلالًا، وأمانَةُ اليَدِ ألّا يمدَّهَا إلى حرامٍ، أما المحورُ الثّالثُ، وهو أمانةُ الإنسَانِ مع الخَلقِ، وهي النّوعُ الذي يعرفه النّاسُ، ويُولُونَهُ العنايَةَ الفائقَةَ، وكأنَّ الأمانَةَ محصورَةٌ فيها، وبَابُهَا واسعٌ جدًا،ابتداءً من الودائِعِ الحقيرَةِ التي يستأمِنُ النّاسُ عليها بعضهم بعضًا، مرورًا بالأسرارِ التي يبوحون بها لأصفيائِهِمْ وخِلَّانِهِمْ، وانتهَاءً بالمسؤوليات العامَّة التي تتعلَّق بالأمَّة.

 

الجزء الثاني من خطبة الأمانة من جامع الجزائر