أنوار من جامع الجزائر.. الهجرة النبوية -الجزء الأول-

أنوار من جامع الجزائر.. الهجرة النبوية -الجزء الأول-

إن شهر الله المحرم الذي نتنسم عطر نفحاته، ونعيش بركات أوقاته، لهو شهر يذكرنا بعبر جليلة ودروس كثيرة، ومن بين أهم ما نتذكره في هذا الشهر الحرام: سنة الصراع المستمر بين الخير والشر، والحرب الضروس بين الحق والباطل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهذه قصة الهجرة النبوية التي نتذاكر أحداثها كلما حل علينا شهر محرم،لهي عنوان صريح للصراع بين جند الرحمن وحزب الشيطان، كما كانت عنوانا ظاهرا للفرار إلى أرض الله الواسعة ليسلم للمسلم دينه؛ ويأمن على عرضه وماله ونفسه، وأنَّ حفظ الأديان مقصد عظيم من مقاصد الإسلام، وقد تجلت في تفاصيل هذه الهجرة المباركة أروع مظاهر صبر النبي صلى الله عليه  وسلم ومعاناته وبذله من أجل إعلاء كلمة الله، ثم تُوِّجت هجرته العظيمة بإقامة صرح دولة متينة البنيان؛ عنوانها عدالة شاملة؛ ومسؤولية عظيمة؛ ورفعة بين الأمم، وإتمام للنعمة السابغة، مصداقا لقوله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”. إن من الإشكالات التي يذكرها المؤرخون: أن هجرة المصطفى عليه السلام لم تكن في شهر الله المحرم، وإنما وقعت في ربيع الأول، فما السبب في اختيار الهجرة مرجعا للتأريخ أولا؟، ثم ما سبب تغيير مبتدأ السنة الهجرية من ربيع الأول إلى المحرم ثانيا؟ والجواب الشافي من باب الأمانة العلمية الوقوف عند ثلاث مسائل:

– الأولى: إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من أرَّخ بالهجرة النبوية، فعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: “جمع عمرُ الناس فسألهم: مِنْ أي يوم يُكتبُ التاريخ؟ فقال علي بن أبي طالب: منْ يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه” رواه الحاكم، قال ابن كثير في البداية والنهاية: “اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة – وقيل سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة – في الدولة العُمرية على جعل ابتداء التأريخ الإسلامي من سنة الهجرة”.

– الثانية: إن سبب اختيارهم لحدث الهجرة دون المولد والمبعث والوفاة، هو أن في الهجرة معنى عظيما لا يوجد في غيره، حيث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: “وذكروا في سبب عمل عمر التاريخَ أشياء: منها ما أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه، ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبي: “أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث، وبعضهم: أرِّخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرِّخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة.

– الثالثة: وأما ابتداؤهم السنة بالمحرم دون ربيع، فمنْ أحسن ما ذكر في تعليل ذلك، ما نص عليه ابن الجوزي رحمه الله بقوله “ولم يؤرِّخوا بالبعث لأن في وقته خلافاً، ولا من وفاته لما في تذكره من التألم لفراقه، ولا من وقت قدومه المدينة، وإنما جعلوه من أول المحرَّم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، إذِ البيعة -أي بيعة العقبة مع الأنصار-كانت في ذي الحجة؛ وهي مقدمة لها، وأول هلال هلَّ بعدها المحرَّم، ولأنه منصرف الناس من حجهم فناسب جعله مبتدأ”،وقد علق ابن حجر على كلام ابن الجوزي بقوله: “وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم”.

الجزء الأول من  خطبة الجمعة من  جامع الجزائر