إنّ مجتمَعًا يتلقّى فيه المعلِّمُ أصنَافَ الإهانَةِ وألوانَ الازدرَاءِ والسّخريَّةِ والاحتقَارِ، لن تقومَ له قائمَةٌ، ولن ترفَعَ له رَايَةٌ، والعجيبُ إذا كان هذا يصدُرُ من الطُّلَّابِ والتَّلَامِيذِ الذين يجلسون بين يديْهِ ويأخذون عنه العِلْمَ، والأعجَبُ من ذلك كُلِّهِما يصدُرُ عن الأوليَاءِ اتِّجَاهَ المعلِّمين، متجاهلين سوءَ أَدَبِ أولادِهِم وقلَّةَ احترامِهِمْ، قال تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” الزمر:09. وروى الإمامُ أحمدُ عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي اللّه عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ”. ومن حَقِّ العَالِمِ والمعَلِّمِ علينا أن نُوَقِّرَهُ ونحترِمَهُ ونُجِلَّهُ، حتّى ينجَحَ في مهمّتِهِ ويؤدِّيهَا على أكمَلِ وَجْهٍ، لأنّ نجاحَهُ نَجَاحُ الأمَّةِ بِرُمَّتِهَا، وهذا ما نلمسُهُ بجلَاءٍ ووضوحٍ في تعامُلِ موسى عليه السّلامُ مع “الخَضِرِ” عليه السّلامُ، فقد قال له موسى بأدَبِ طالِبِ العِلْمِ مع المُعَلِّمِ: “هَلْ اتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا” الكهف:66، فقال المعلِّمُ كما حكى القرآنُ الكريمُ: “قال إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا” الكهف: 70 ــ 67. فكُلُّ ما نَجِدُهُ في الحَيَاةِ من رُقَيٍّ وتَقَدُّمٍ وازدهَارٍ على كَافَّةِ المستويَاتِ، يعودُ فضلُهُ بعد اللهِ للمعلِّمِ ودورِهِ الكبيرِ في التّعمِيرِ والبنَاءِ، ولهذا كان سلفُنَا الصَّالِحُ مَضْرِبَ مَثَلٍفي توقيرِهِمْ للمعلِّمِ واحترامِهِمْ له، فعن الشّعبيِّ رحمه اللّه تعالى أنّه قال: “صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جَنَازَةٍ ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَهَا بِرِكَابِهَا، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهَا يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ”. وقال الشّافعيُّ رحمَهُ اللّهُ “كنْتُ أَتَصَفَّحُ الوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ صَفْحًا رَفِيقًا هَيْبَةً لَهُ، لئلا يَسْمَعَ وَقْعَهَا”؛ وقال الرّبيعُ: “وَاللَّهِ مَا اجتَرَأْتُ أَنْ أَشْرَبَ المَاءَ والشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إِلَيَّ هَيْبَةً لَهُ”. إنّ حَجَرَ الأسَاسَ في بنَاءِ الأوطَانِ وصناعَةِ الأجيَالِ هو المعلِّمُ، ولا شَكَّ في ذلك، فالقَائِدُ العسكَرِيُّ، والمهندِسُ والطّبيبُ والقاضِي، والمخترِعُ والمكتشِفُ، والتَّاجِر والفَلَّاحُ والصَّانِعُ، وغيرُهُمْ من أصحَابِ الوظائِفِ والمِهَنِ والحِرَفِ، وأصحَابِ القَلَمِ والرَّأْيِ، كُلُّ هؤلاء من صُنْعِ يَدِهِ وفِكْرِهِ، ولهذا فإنّ إعدَادَ المعَلِّمِ وتوفيرَ الجَوِّ الملائِمِ له، حتّى يؤدّي عَمَلَهُ على أكمَلِ وَجْهٍ، من أولى أولويَاتِ الأمَّةِ، إذا أرادت النُّهُوضَ والتّطوُّرَ والازدهَارَ ومنافسَةَ الدُّوَلِ المتحضّرَةِ، ونصيحتُنَا خِتَامًا للمعلِّمِ بأن يُخْلِصَ في عملِهِ للّهِ عزّ وجلّ، وأن يؤدي رسالَتَهُ بإتقَانٍ، وواجِبَهُ بِكُلِّ تَفَانٍ، ليسيرَ كُلُّ شيءٍ على مُرَادِ اللّهِ، وفيما يُرضي اللّهَ، ولتعيشَ الأمَّةُ في أَمَانِ اللّهِ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر