هذه الأحدَاثُ المؤلمَةُ التي لم تَزَلْ حَيَّةً في ذاكرتِنَا، لا يمكن أن تَلُفَّهَا غَيَاهِبُ الزَّمَنِ مهما تباعدَت أيّامُهُ، ولا تسقُطُ هذه الجنايَاتُ التي هي جرائِمُ حربٍ ضِدَّ الإنسانيَّةِ بالتّقادُمِ، ولا يمكن أن تُبْنَى عَلَاقَاتٌ طبيعيّةٌ مع عَدُوِّ المَاضِي إلّا بعد تسويَةِ مِلَفِّ الذّاكرَةِ واعترافِهِ بجرائمِهِ الموثَّقَةِ في أرشيفِهِ وسطّرتْهَا أَيَادِيهِ الآثمَةِ. ذلك لأنّ تلك التّضحيَاتِ الجسيمَةَ هي أمانَةُ الشّهدَاءِ في أعناقِنَا، وهي مصدَرُ فخرِنَا، وسَبَبُ مجدِنَا الخالِدِ الذي يرفَعُ رأسَ كُلِّ جزائريٍّ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ، وكَفَاهُمْ شَرَفًا ومَكْرُمَةً أنّهم أحْيَاءٌ عند ربِّهِمْ يُرْزَقُونَ، قال تعالى “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” آل عمران: 169. وما أشبَهَ اليومَ بالبارحَةِ، وكأنّ التّاريخَ يُعِيدُ نفسَهُ؛ فمنطِقُ الاستدمَارِ وَاحِدٌ، والإجرَامُ والجبن هو وسيلتُهُ الخسيسَةُ التي تَصمُّهُ، فهاهو الاحتلَالُ الصهيونيُّ اليومَ في أرضِ فلسطين ونحن نحُيِي ذِكْرَى هذه المجازِرِ الأليمَةِ يذكِّرُنَا عمَلِيّا بارتكابِهِ مَجَازِرَ لا تَقِلُّ في بشاعَتِهَا وهمجيَّتِهَا عن بشاعَةِ وهمجيَّةِ إجرَامِ المستدمِرِ الفرنسِيِّ، تحت صَمْتٍ عَالَمِيٍ مُرِيبٍ، بل تَوَاطُئٍ مفضوحٍ. إن أَوَّلُ درسٍ نتعلّمُهُ ونحن نَتَدَارَسُ أحدَاثَ التّاريخِ؛ أن لا نَنْسَى تضحيَاتِ شهدائِنَا الأبرَارَ، ولا تاريخَنَا الّذي سطّرُوهُ بدمائِهِمْ الزّكيَّةِ، والذي بسببِهِ نَحيَا أعِزَّاءَ فوق أرضِنَا، فخورين بماضِينَا، آمنين في أوطانِنَا. وإنّ من الوَفَاءِ لشهدائِنَا أن نَرْوِيَ بطولاتِهِمْ التي سطّروهَا بدمائِهِمْ للأجيَالِ، وهذا ما أرشدنا إليه القرآنُ الكريمُ في قولِهِ تعالى: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً” الأحزاب: 23. والدّرسُ الثّانِي المستفَادُ، أن نَظَلَّ إلى جَانِبِ المستضعفين في الأرضِ، نَدْعَمُ الشُّعُوبَ الواقعَةَ تحت وَطْأَةِ القَهْرِ والجبروتِ، وعلى رأسِهِمْ إخواننَا في الأرضِ المقدّسَةِ بفلسطينَ، الذين يرزحون تحت نَيْرِ الإبادَةِ الجماعيَّةِ العلنيَّةِ، فنحن أكْثَرُ الشُّعُوبِ إحساسًا بمرارَةِ الاحتلَالِ والظّلمِ، وأَكْثَرُ معرفَةً بحقيقَةِ العيشِ تحت القَصْفِ والحِصَارِ والتّدميرِ، فالقضيَة وَاحِدَة والموقِف وَاحِد، فكما نعتَزُّ بمجاهِدِينَا وشهدائِنَا الذين صنعوا تاريخَنَا، نعتَز بشهدَاءِ ومجاهِدِي أرضِ الرِّباطِ فلسطينَ، وكما كان طريقُ استقلالِنَا وعِزّتِنَا هو الجهَادُ والمقاوَمَةُ، فنحن معهم لأنّهم مِنَّا ونحن منهم، ونحن مع كُلِّ مُقَاوِمٍ للظّلمِ، يدافِع عن أرضِهِ وعِرضِهِ، ويَأْبَى أن يُحْنِيَ هامتَهُ إلّا للّهِ، فشعارُنَا وَاحِدٌ، إمّا النّصرُ وإمّا الشَّهَادَةُ، الدّرسُ الثّالثُ: بعد مرورُ ثلاثٍ وستّينَ 63 عامًا على هذه المجازِرِ الموثّقَةِ والمسَجَّلَةِ، لم تتحرَّكْ المنظّمَاتُ الحقوقيَّةُ والدّوليَّةُ لإدانَةِ هذه الجرائِمِ والمجازِرِ، التي هي جرائِمُ ضِدَّ الإنسانيَّةِ، وقد تَمَّتْ في قلبِ أوروبا المتغنِّيَةِ بحقوقِ الإنسَانِ، ما يجعَلُ مِصْدَاقِيَّتَهَا تَتَهَاوَى، والثِّقَةَ بها تنقطِعُ، والتعويلَ عليها في استرجَاعِ الحقوقِ لا طَائِلَ منه، لأنّها موجَّهَةٌ على الضّعفَاءِ وحسب؛ وأصحَابُ هذا المنْطِقِ ليس لهم الأهليَّةُ لقيادَةِ العَالَمِ ولا تدريسُ النّاسِ قِيَمَ الحَقِّ والعَدْلِ، وأنّ الحُقُوقَ تُؤخَذُ ولا تُعْطَى.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر