أنوار من جامع الجزائر.. الانتماء للوطن – الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. الانتماء للوطن – الجزء الأول –

لقد خَلَقَنَا الله تعالى من ترابِ الأرضِ، وقدّر فيها معايِشَنَا، ثمّ نعود إليها، ثمّ نخرج منها تارَةً أخرى، قال تعالى: “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى” طه: 55، فهي مبدؤُنَا وموطنُنَا، وفيها تستقِرُّ أبدانُنَا بعد المَمَاتِ. فلا غَروَ أن يكونَ الإنسَانُ مفطورًا على الارتبَاطِ بالموطِنِ الذي وُلِدَ فيه وتَرَعْرَعَ في أكنافِهِ، واحْتَضَنَ آبَاءَهُ وأجدادَهُ، وتَضَمَّنَ قصَّةَ حياتِهِ، بما تكتنفُهُ من مشاعِرَ وأحاسيسَ مختلفَةٍ. ولقد ظَلَّ الإنسَانُ عبرَ كلِّ العصورِ والحَضَارَاتِ يُخَلِّدُ القَصَصَ والرّوايَاتِ والأشعَارَ التي تحكي ارتباطَهُ بموطنِهِ حتى ولو كان مقفِرًا ومجدِبًا. يقول حجّةُ الإسلَامِ الغزاليُّ رحمه الله تعالى: “والبشرُ يألَفُون أرضَهُمْ على ما بها، ولو كانت قَفْرًا مستوحَشًا، وحُبُّ الوطنِ غريزةٌ متأصِّلَةٌ في النفُوسِ، تجعَلُ الإنسَانَ يستريحُ إلى البَقَاءِ فيه، ويَحِنُّ إليه إذا غَابَ عنه، ويدافِعُ عنه إذا هُوجِمَ، ويَغْضَبُ له إذا انْتُقِصَ”. وقد شهدت البشرِيةُ منذ فَجْرِ التاريخِ إلى اليومِ الحروبَ والنزاعَاتِ بين الدُّوَلِ والإمبراطورياتِ والقبائِلِ التي غالِبًا ما تكون دِفَاعًا عن الأوطَانِ ورَدًّا للأطمَاعِ فيها، وقد قَصَّ علينا البَارِي سبحانَهُ قصَّةَ ملإٍ من بني إسرائيلَ استأذنوا نبيَّهُمْ في القتالِ في سبيلِ اللهِ دفَاعًا عن أوطانِهِمْ، فَأَذِنَ لهم وحذّرهم من التّخاذُلِ والتّراجُعِ؛ قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا”. وبيّن سبحانه في آية أخرى شدَّةَ ارتباطِ النّاسِ بأوطانِهِم، فقرنَهَا في الابتلَاءِ بقتلِ النّفسِ على ما فيه من شِدَّةٍ ومشقَّةٍ، تضاهيها مشقّة الابتلاءِ بالإخراجِ من الوطنِ، وهذا نبيُّنَا صلّى الله عليه وسلّم غَدَاةَ نزولِ الوحيِ عليه، وما لقيه جَرَّاءَ ذلك من الرّوعِ، أخذته زوجُهُ خديجةُ رضي الله عنها إلى ابنِ عمِّها وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فأخبرَهُ أنّ قومَهُ سيخرجونَهُ من بلدِهِ، فَفَزِعَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لذلك، ولم يستغرِبْ تكذيبَهُمْ ومحاربَتَهُمْ له؛ إذ إنّ ذلك متوقَّعٌ منهم، فقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ:”أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟”.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر