أنوار من جامع الجزائر.. الأمانة – الجزء الأول-

أنوار من جامع الجزائر.. الأمانة – الجزء الأول-

إنّ الأمانةَ في منظورِ الشّرعِ بالغةُ الأهميَّةِ، فشأنُهَا عظيمٌ، وأمرهَا خطيرٌ، وخطْبَهَا جسيمٌ، فهي من مهمَّاتِ الأمورِ، إذ تدخُلَ في أبوابٍ شَتَّى، وتتعلَّقُ بمتعلَّقَاتٍ كثيرةٍ، وإنّ حصْرَ الأمانَةِ وثقلَهَا في حفظِ الودائِعِ المادِّيَّةِ فقط، لهو تجنٍّ سافِرٌ على كلِّ المعانِي الجليلَةِ الّتي تنضوي تحت مفهومِهَا، وتضييقٌ لدائرتِهَا الفسيحَةِ، وحَطٌّ من قدرِها العظيمِ، إذ إنَّ حقيقَةَ الأمانَةِ في مفهومِ الشّرعِ الحنيفِ أثقلُ وأوسَعُ من أن تُحصَرَ في حفظِ الودائعِ والمادِّيَّاتِ. فالأمانةُ هي الفريضَةُ التي يتواصى المسلمون برعايتِهَا، ويستعينون باللهِ العظيمِ على حفظِهَا، ويتذاكرون بها في مجالِسِهِمْ وأحاديثهم، ألمْ يؤدِّبنا سيّدُ الخلقِ حين الهَمِّ بالسَّفَرِ أن نتواصى بها؛ فَعلَّمَنَا أن نقول “أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ”؟ ألم يصف القرآنُ المؤمنين بأنّهم حافظون لأماناتِهِمْ راعون لعهودِهِمْ: “وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” المعارج: 32، ألم يجعل النبيُّ عليه الصّلاة والسّلام الأمانَةَ أَمَارَةً على كَمَالِ الإيمَانِ، كما في حديثِ أنسٍ رضي الله عنه أنّه قال: “مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ”. قال الإمامُ الشّافعيُّ رحمه الله: “لَا يَكْمُلُ الرَّجُلُ إِلَّا بِأَرْبَعٍ: بِالدِّيَانَةِ، وَالأَمَانَةِ، وَالصَّيَاَنَةِ، والرَّزَانَةِ”. إنّ الأمانَةَ في مفهومهَا الشَّرعيِّ ترجِعُ إلى “قيامِ المرءِ بجميعِ المسؤوليَاتِ الملقَاةِ على عاتقِهِ في أمورِ الدّينِ والدّنيَا”، لذا نجد عبارَاتِ أهلِ العلمِ الذين عرَّفُوا الأمانَةَ تَصُبُّ في هذا المعنى الجليلِ، ألا وهو “القيامُ بالمسؤولياتِ”. ولا بأس أن نعرِّج على أقوال سلفِ هذه الأمّةِ في تعريفهم للأمانةِ: قال مجاهدٌ وابنُ جُبيرٍ والحسنُ البصريُّ عليهم الرّضوان: “إنّ الأمانةَ هي الفرائضُ”، ويقرُبُ منه قولُ قتادةَ رحمه الله: “الأَمَانَةُ هِيَ الدِّينُ وَالفَرَائضُ وَالحُدُودُ”. ومن أجمعِ ما قيل في الأمانَةِ قول بعضهم: “الأمانَةُ هي تحقِيقُ المسؤوليَّةِ التي أُنِيطَتْ بها حواسُ الإنسَانِ التي خلقها الله سبحانَهُ، ليستغِلَّهَا في مرضاةِ اللهِ وفعلِ الخيرِ والعملِ الصّالِح، يقول عزَّ من قائل “إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا” الإسراء: 36.

الجزء الأول من خطبة الأمانة من جامع الجزائر