إنَّ من أَوْكَدِ مَا يُعْنَى به المسلِمُ في هذه الأيَّامِ المباركَةِ أعمَالًا جليلَةً، يَتَعَرَّضُ بها لنفحَاتِهَا، ويُقْرِي بها ضِيَافَتَهَا، وتَكُونَ زَادًا لَهُ لِشَهْرِ المَكْرُمَاتِ رَمَضَانَ. ومن أخَصِّ الأعْمَالِ الصَّالحَةِ التي نَسْتَقْبِلُ بها ضَيْفَنَا العَزِيزَ أربَعُ عِبَادَاتٍ جَلِيلَةٍ:
أوّلًا: التَّوْبَةُ النّصوحُ من كُلِّ الذّنوبِ والآثامِ: والأوبَةُ إلى اللّهِ تعالى حَقَّ الأَوْبَةِ، والعَزْمُ الأَكيدُ على بَدْءِ صَفْحَةٍ جديدَةٍ، تَأَهُّبًا لشَهْرِ رَمَضَانَ الفَضِيلِ، وتَعَرُّضًا لنَفَحَاتِ اللّهِ التِي ضَمَّنَهَا أَوْقَاتَهُ المبارَكَةَ، قال اللّهُ تعالى مُوَكِّدًا شَأْنَ التَّوْبَةِ في كُلِّ آنٍ وحِينٍ: “وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” النور: 31.
ثانيًا: ذكرُ اللّهِ تعالى ذِكْرًا كثيرًا: والذِّكْرُ مَأْمُورٌ به في مُحْكَمِ التِّبْيَانِ، حيثُ قال اللّهُ تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا” الأحزاب: 41، 42، وقد أَوْصَى به عليه الصَّلَاةُ والسَّلَامُ كَمَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ في سُنَنِهِ، والبَيْهَقِيِّ في السُّنَنِ الكُبْرَى، من حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي اللّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ:لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ”.
وإنَّ من أَفْضَلِ الذِّكْرِ على الإطْلَاقِ تِلَاوَةُ كِتَابِ اللّهِ سبْحَانَهُ بُكْرَةً وعَشِيًّا.
ثالثًا: الصّومُ: وهيَ عبادَةٌ جليلةٌ، رَغَّبَ فيها التَّشْريعُ الإلهيُّ ترغيبًا آكَدًا، حيثُ نَسَبَهَا اللّهُ تعَالَى لذَاتهِ العَليَّة، فقالَ اللّهُ عزَّ وَجَلَّ في الحديثِ القُدسِيِّ، كمَا عنْدَ الشيخين من حَديثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي اللّهُ عنه “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لهُ، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، ولَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ”، وَخَصَّهُ اللّهُ تَعَالَى بِبَابٍ في الجَنَّةِ، ضِمْنَ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانيَةِ، فثبتَ في الصَّحِيحَينِ عَنْ سَهْلٍ بن سَعْدٍ رضيَ اللّهُ عنهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ”.
رابعًا: الصَّدَقَةُ في وجوهِ الخيرِ والإحسَانِ:حيث قال اللّه سبحانَهُ وتعالى مُنَوِّهًا بِشَأْنِ صَدَقَةِ السِّرِّ والعَلَانيَّةِ: “إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، ونكفِّرْ عنكُم مِن سَيِّئَاتِكُم” البقرة: 271، وثبت عند الشَّيخينِ واللَّفظُ للبخَاريِّ من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضيَ اللّهُ عنهُ عَنِ النَّبِيِّ أنّهُ قال “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”، فذكر منهم “وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ”.
ها هيَ ذِي نفحَاتُ شَهْرِ اللّهِ رَجَبٍ تَنْزِلُ بِرِحَابِكُمْ، وهَا هي ذِي أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ تَتَحَبَّبُ إليكُمْ، فَشَمِّرُوا عن سَاعِدِ الجِدِّ والاجتهَادِ، وطَلِّقُوا الكَسَلَ والخُمُولَ والرُّقَادَ، وأَكْثِرُوا من أَعْمَالِ البِرِّ في هَذه الأَيَّامِ، فإنّ اللّهَ تعَالَى نَاظِرٌ إليكُمْ نَظَرَ رَحْمَةٍ ومَغْفِرَةٍ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر