إنَّ المُسْلِمَ يحِبُّ الخَيْرَ لإخْوَانِهِ كما يُحِبُّ لنفسِهِ، ويَتَمَنَّى لهم السَّعَادَةَ والتّوفِيقَ،فقد قَالَ اللّهُ تعالى في وَصْفِهِمْ: “رُحَماءُ بَيْنَهُمْ” الفتح: 29، وقال النبيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم: “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”، وفي هذا المعنى يقول الإمامُ ابنُ القّيِّمِ رحمه الله: “سَلَامَةُ الصَّدْرِ تُنشئُ التَّآلُفَ، وتُزيلُ أسبَابَ الوحشَةِ والفُرْقَةِ بينَ المسلمينَ، وهي دليلٌ على كَمَالِ الإيمَانِ وصِدْقِ الإحْسَانِ وكما أنَّ المسلِمَ لا يُحِبُّ أن يتحدّثَ النّاسُ عنهُ في غيبتِهِ بسوءٍ، فعليهِ أن يُحِبَّ ذلكَ لإخوانِهِ المؤمنينَ. وهذا نبيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُرْشِدُ أصْحَابَهُ إلى تَرْكِ ما يُؤَثِّرُ في سَلَامَةِ الصَّدْرِ، فقد رَوَى أبو داود عن عبدِ اللّهِ بنِ مسعودٍ رضي اللّهُ عنه قال: قال رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: “لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ”، وقد تَرْجَمَ أَفَاضِلُ هذه الأمَّةِ هذا القَوْلَ إلى وَاقِعٍ عَمَلِيٍّ تعبُّدًا للّهِ ومحبَّةً لرسولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فقد دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَذَكَرَ لَه عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ، فَإِنْ كُنْتَ كَاذبًا فَأَنْتَ منْ أَهْلِ هَذِهِ الآيَةِ: “إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا” الحجرات: 6، وَإِنْ كنْتَ صَادقًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الآيَةِ: “هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ” القلم: 11، وَإِنْ شِئْتَ عَفَوْنَا عَنْكَ، فَقَالَ: العَفْوَ، يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَا أَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا” فلو كان كُلُّ رَاعٍ على هذا المِنْوَالِ لَمَا وَجَدْنَا من يُفْسِدُ في مجتمعَاتِنَا، ولَأَغْلَقْنَا أَبْوَابَ الشَّرِّ التي عَطَّلَتْ مَصَالِحَ النَّاسِ، وخَرَّبَتْ المؤَسَّسَاتِ،ودَمَّرَتْ الأُسَر، وفَرَّقَتْ الأصْحَابَ.
إنَّ لسَلَامَةِ الصَّدْرِ ثَمَرَاتٍ جليلَةً عظيمَةً، دينيَّةً ودنيويَّةً، فهي سَبَبٌ لدُخُولِ الجَنَّةِ والتَّمَتُّعِ بنعيمِهَا، فقد أَخرَجَ أحمَدُ في مُسْنَدِهِ من حدِيثِ عبدِ اللّهِ بنِ عمرو رضي الله عنهما قال: قال عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ: “يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، تَكَرَّرَ ذَلكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَحَبَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي اللّهُ عنهما أَن يَعْرِفَ خَبِيئَةَ هَذَا الرَّجُلِ، فَبَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرَهُ كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ سِرِّ ذَلكَ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعَطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا تُطَاقُ”، واعلموا أن سَلَامَةَ الصَّدرِ سَبَبٌ لِقَبُولِ الأعمَالِ، فقد روى مسلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”، وهذا دَلِيلٌ على أنَّ الشَّحْنَاءَ تَمْنَعُ المَغْفِرَةَ، بينما سَلَامَةُ الصَّدْرِ سَبَبٌ لرضَا اللَّهِ وَقَبولِ الأَعْمَالِ. وسَلَامَةُ الصَّدْرِ سَبَبٌ من أَسْبَابِ السَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ، السَّعَادَةُ التي لا تُنَالُ بِالمَالِ ولا بِالمَنَاصِبِ، بل بِنَقَاءِ القَلْبِ، كما بيَّنَ ذلك سَيِّدُ الكائِنَاتِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، ففي صحيحِ مسلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر