القلب هو مَخزن الدوافع ومحلُّ الإرادة، بصلاحه يفوز الإنسان، وبفساده يَهلِك؛ مصداقًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: “ألا وإن في الجسد مُضغة، إذا صَلَحت صَلَح الجسد كلُّه، وإذا فَسَدت فَسَد الجسد كله، ألاَ وهي القلب” متفق عليه. فالقلب هو الملك على الأعضاء والجوارح تَبَعٌ له، فعمَلُ القلب هو رُوح العبوديَّة ولُبُّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه، كان كالجسد الموات بلا رُوح. وعلى ساحة القلب تَدور معارك طاحنة بين داعي الإيمان وداعي الشيطان، وأيُّهما انتصَر سَخَّر الجوارح لخدمته. القلب هو العالِم بالله، وهو المتقرِّب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وإنما الجوارح أتباع وخَدَمٌ وآلات يستخدمها القلب، ويستعملها استعمالَ المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعيَّة، والصانع للآلة، وهو الذي يَسعد بالقُرب من الله، فيُفلح إذا زكَّاه، ويَخيب ويشقى إذا دنَّسَه ودسَّاه، وهو المُطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرِّد على الله تعالى، وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثارُه، وبإظلامه واستنارته تَظهر محاسنُ الظاهر ومساويه.
وهنا يأتي دور الصيام الذي يحمي النفس من بواعث الشهوات، ويُحرِّرها من أسْر الغرائز، ويرفع عنها ثِقَل المُلهيات؛ مما يعطي القلب فرصةً للتأمُّل والتفكر والتبصُّر، فيستعيد عافيته، وتَستيقظ فِطرته، ويُصبح جاهزًا لتلقِّي الأنوار الإلهيَّة. ما أحوج قلوبنا لأنوار رمضان؛ لتَنقلنا من ظلمة المعصية إلى نور الإيمان، ومن ارتكاب الزَّلات إلى النهوض بالطاعات، ومن دَنَس الفجور إلى رياض التقوى. ما أحوجنا إلى ولادة القلب من جديد، قلب لَم يتلطَّخ بمعصية، ولَم تَستعبده نَزوة، قلب رفَع شعار: ” وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ” طه: 84. إنَّ حقيقة السعادة التي يَطلبها الناس في دنياهم وأُخراهم، لا تُنال بما تُمارسه الجوارح من أشكال العبادة، وإنما تُنال بما يقوم في القلب من أعمال، كالإخبات والتذلُّل، والخضوع والحب لله، والأُنس به، والخوف منه، والانكسار له، وذلك أن العبادة التي تؤدِّيها جوارحه ولا تَقوم في قلبه، لا تترك الأثرَ المطلوب على نفسه، ولا يتحقَّق بها أُنس ولا طمأنينة ولا راحة.