فرَض الله تعالى الصيام؛ ليتحرَّر الإنسان من سلطان غرائزه، ويَنطلق من سِجن جسده، ويَتغلَّب على نزعات شهوته، ويتحكَّم في مظاهر حيوانيَّته؛ لأنه “إذا تَغلَّبت هذه الطبيعة الحيوانيَّة ومَلَكت زمام الحياة، واسْتَحْوذت على مشاعر الإنسان وحياته، وأصبَحَت “المعدة” القطب الذي تدور حوله الحياة، شَقَّ على الإنسان كلُّ ما يحول بينه وبين رغبته، وما يشغله عن إرضاء نَهْمَته، وكلُّ ما يُذَكِّره بمبدئه ومصيره، فلا يجد في أعوام طوال وقتًا صافيًا، وقلبًا فارغًا، وعقلاً يَقظًا، وضميرًا حيًّا، فتَثقل عليه العبادة والذِّكر وما يتصل بهما، ولا يجد لذَّتهما.
وما أجمل قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “شرَع الصيام للناس؛ فطامًا لأنفسهم عن شهواتها المألوفة، وقهرًا لعاداتها المستحكمة، وتدريبًا للإرادة في صراعها مع الغرائز السُّفلى، وإطلاقًا للرُّوحانيَّة الحبيسة في سجن الضرورات المتكرِّرة أبدًا، ضرورات الغذاء والكساء، وكأنَّ الإسلام يريد إشعار الإنسان بأصْله العريق المُنبثق من رُوح الله، ويُريد تحريره من آصار الأرض، ويُريد أن يجعلَ من أيام هذا الشهر المبارك فُرَصًا للتزوُّد من عناصر السمو ومعاني الطُّهر، وادِّخار مقدار من ذلك يَبقى مع المرء طول السَّنة”، وصدَق الشيخ الغزالي، فأثناء الصيام وخُلو المعدة، أو تخفُّفها من الطعام، تسمو الرُّوح ويصفو القلب، وتَزول الحُجُب وجواذب الأرض، فيكون الصفاء والإشراق، ويشعُّ نورُ الحق في القلوب، فيُضيئُها، وتتهيَّأ النفس للتزكية بالذِّكر وتلاوة القرآن، والاستغفار والتوبة والدعاء، وتكون السعادة الحقَّة والمُتعة الرُّوحيَّة، والشعور بالقُرب من الله.
أخي في الله، اعلم “أنك تصوم وليس لله حاجة إلى طعامك وشرابك؛ كي يشهدَ حالك أن نداء السماء أعزُّ عليك من شهوة جسدك، فتَنقدح بذلك شرارات تُزكي رُوحك، وتُبدِّد ظُلمة نفسك.