إنَّ صوم رمضان منهاج يتدرَّب به المرءُ على تحرير نفسه، والانسحاب بها من أَسْر المادة وظُلمة الشهوة؛ ليحيا ما شاء الله في ملكوت الحياة الحقِّ، ويكون له ما شاء الله من خصائص الخير والفضيلة، فالحريَّة الصحيحة لا يَذوقها ولا يُقَدِّرها إلاَّ من حَيَّ هذه الحياة. وعن معنى الحرية الحقيقيَّة التي يحقِّقها الصيام، يحدِّثك د. مصطفي السباعي – رحمه الله: “وليست الحرية كما يظنُّها كثير من الشباب أن يَنطلق الإنسان وراء أهوائه وشهواته، يأكل كما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحقِّق كلَّ ما يهوى ويريد، فتلك هي الفوضى أولاً والعبودية الذليلة أخيرًا، حين تستولي على الإنسان عادة الانطلاق وراء كلِّ لذَّة، والانفلات من كلِّ قيْدٍ يكون قد استعبدتْه اللَّذة على أوْسع مدًى، وأصبَح أسيرَها يجري في الحياة تحت إرادتها ووَحْيها، لا يعمل إلاَّ ما تريد، ولا يستطيع فَكاكًا مما تهوى.
وحين ينطلق الإنسان وراء فتاة يهواها أو وراء الغانيات يُشبع بهنَّ لذائذه، أيستطيع أن يزعم أنه حُرٌّ من سلطانهنَّ؟ ألا تراه أسيرَ اللحظات، رَهْنَ الإشارات، شارِدَ اللُّب، أقصى أمانيه في الحياة بسمة من حبيب هاجِر، أو وصال من جسم مُمتنع؟! أيَّة عبوديَّة أذَلُّ من هذه العبوديَّة، وهو لا يَملِك حريَّته في الحبِّ والكُره، والوَصل والمنَع، والرضا والغضب، والهدوء والاضطراب؟! ليست العبوديَّة قيْدًا ولا سجنًا فحسب، فهذه أهون أنواع العبوديَّة وأسرعها زوالاً، ولكن العبودية الحَقَّة: عادةٌ تتحكَّم، وشهوةٌ تستعلي، ولذةٌ تُطاع، وليست الحرية هي القدرةَ على الانتقال من بلدٍ إلى بلد، فتلك أيسرُ أنواع الحرية وأقلُّها ثمنًا، ولكن الحرية الحَقَّة أن تستطيع السيطرة على أهوائك ونوازع الخير والشر في نفسك، إنَّ الحرية الحَقَّة ألاَّ تستعبدَك عادةٌ، ولا تستذلَّك شهوةٌ.
إنَّ أوسَعَ الناس حرية أشدُّهم لله عبوديَّة، هؤلاء لا تستعبدهم غانية، ولا تتحكَّم فيهم شهوة، ولا يستذلهم مالٌ، ولا تُضيِّع شهامتَهم لذَّةٌ، ولا يَذِلُّ كرامتَهم طمعٌ ولا جَذَعٌ، ولا يَتَملَّكهم خوفٌ ولا هَلَعٌ، لقد حرَّرتْهم عبادةُ الله من خوف ما عداه؛ ” أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ” يونس: 62 – 64.