أقنعة

أقنعة

أنهض من فراشي على عجل، أشعر بخفقان شديد في قلبي، بصعوبة أدخل الحمام، أغسل وجهي، أرتشف قهوتي على عجل، أجلس أمام عتبة الباب المؤدي إلى الباحة، أحمل مرآة صغيرة بطرف أصابعي، أضع حقيبة صغيرة مملوءة بمستحضرات التجميل، أتجمل، أحول وجهي الكئيب في لحظات إلى ملامح مشرقة، سعيدة وأنا أرتدي ملابسي وأضحك في قرارة نفسي بمرارة، كم أجيد التمثيل لو لم أكن كاتبة لكنت ممثلة كبيرة سواء على خشبة المسرح أو في السينما، المهم أنني فنانة، أجيد التخفي وراء أقنعة مختلفة حتى لا يلاحظ الآخرون ما أخفيه بداخلي من همّ ويأس وملل قاتل ..

أقفل الباب من ورائي، أخرج حاملة حقيبة يدي وملف أوراق مهمة أحتاجها، وأذهب إلى مقر عملي بإحدى المؤسسات الثقافية بالعاصمة، وتلفح وجهي نسمات باردة توقظ بداخلي مشاعر غامضة ويستقبلني الشارع .

لحظات أمشيها وأنا شبه نائمة لأصل إلى محطة الحافلات، ووسط ازدحام شديد وروائح العرق والبنزين تمتزج بطريقة تثير القرف والغثيان، أركب في إحدى الحافلات المزدحمة أيضا، أقف في الرواق، لا أجد كرسيا شاغرا أجلس عليه، أبتلع ريقي بمرارة، شعور بالحنق والغضب ينتابني فجأة، أنظر إلى إحدى المسافرات بابتسامة مصطنعة راجية منها أن تفتح النافذة التي تقع على جانبها الأيمن من المقعد الذي تجلس عليه، ترمقني بنظرات متفحصة وأنا أعبر بملامحي عن مدى سخطي وحنقي على أولئك المسافرين وخاصة ذلك القابض البائس الذي بدأ يروح ويجيئ داخل رواق الحافلة ليحصل على الأجرة وكذلك ليملأ عينيه الخبيثتين المتعطشتين لأجساد النساء اللواتي يقفن أمامه، أردد في نفسي كالمجنونة :

يا لك من كلب وضيع، أنت تمتع جيبك بنقود المسافرات وعيونك بل أحيانا كفيك الجريئتين وأنت تلمس أيديهن حينما يعطينك النقود وفي كل روحة وجيئة تستمتع بالتصاق جسدك بأجسادهن وأنت تتصنع الصرامة في أداء وظيفتك، يا لك من مقرف ألم يكن حري بك وأنت تقف عند باب الحافلة أخذ أجرتك من المسافرين دون أن تلصق جسدك بهن ألف مرة في اليوم.. كم أصبحت الحياة رخيصة، ولا يوجد فيها ما يستحق العيش ..

تمر ساعة أو بعض ساعة، لست أدري كم من محطة توقفت فيها حافلتي لأصل إلى محطتي المنشودة، أنزل، أصعد المدرج العالي المؤدي إلى النفق، أعبره بصعوبة لكثرة ما احتله الباعة والمتسولون، أدخل محلا للمواد الغذائية أشتري بعض الحلوى وأتذكر فجأة وأنا أقرأ إحدى اللافتات “هاتف عمومي” أنه علي أن أتصل بعائلتي التي تقطن بقرية نائية بضواحي مدينة بومرداس .

أتحدث إلى والدي عبر الهاتف ببضع كلمات للاطمئنان ثم أوقف سيارة أجرة أستقلها، وفي لحظات أجد نفسي عند المدخل الرئيسي للمؤسسة التي أشتغل فيها منذ سنوات.. شعور بالمرارة يملأ حلقي وأنا ألج من الباب الرئيسي الخاص بالعمال، أبتسم لموظفة الاستقبال، أوقع حضوري بواسطة البطاقة المغناطيسية ثم أنزل السلم المؤدي للطابق الأرضي، أفتح حقيبة يدي، أبحث عن المفاتيح وبعصبية واضحة أجدهم، أفتح باب مكتبي ثم أقفله حتى لا أرى ولا يراني أحد وبحذر شديد أتصرف داخل مكتبي لأن بعض زملائي من العمال يترصدون كل حركة وسكون، كل آهة وكل دمعة وكل شكوى وكل تأفف وكل ضحكة وكل رنة من رنات هاتفي النقال، هم لا يعملون شيئا سوى التجسس والتحسس لينقلوه حرفيا لرئيستي تلك السيدة التي تدّعي الترفع والتدين، وفي حقيقة الأمر هي كتلة من الغباء والجهل والميوعة ..

بحركة هادئة، أبحث فوق مكتبي ووسط كومة من الكتب المتراكمة عن عنوان لكتاب لم أقرأه بعد أو بالأحرى اشتقت إليه لأن كل كتبي أقرأها مرارا وتكرارا، حبي للقراءة والكتب رغبة تكبر في نفسي يوما بعد آخر وهل هناك ما يستحق الاهتمام في هذه الحياة سوى قراءة كتاب، هذه هوايتي التي تحولت إلى إدمان مع مرور الوقت، وتقع عيناي على عنوان جميل لكاتبة أمريكية أحبها كثيرا

“ذهب مع الريح”، أعتدل في جلستي، أتنهد بعمق أخرج كل ما بداخلي من مرارة وألم في نفس طويل أفقد معه بعض طاقتي وحيويتي وأشرع في القراءة هذا العنوان “ذهب مع الريح”… إنه يعبر عن أحلامي الضائعة ويفجر مأساتي في هذه المؤسسة التي يتراجع مستواها يوما بعد آخر، لتتحول إلى لا شيء، لا شيء سوى ملل، لا شيء سوى مؤامرات دنيئة تحاك حول موظفيها الشرفاء الذين أصبحوا كالدمى، كقطع الشطرنج في أيدي لاعب محترف، جبار، متسلط قديم كقِدم زماننا هذا الذي صيره كي لا يقيم للفضيلة وزنا، نعم شكله كما يريد هو حتى أصبح الشرف مرضا والرذيلة شيئا مشروعا، بل مفخرة واعتزاز أي رجل هذا الذي يقلب الموازين ويغير الأخلاقيات في مؤسسة، أظن بل تأكدت الآن، من أنها صارت ملكية خاصة له وشركائه الكثيرين ..

 

بقلم: أمال عسول