إنّ من فضل الله ومنّته علينا، أن يلتئم جمعنا في جامع الجزائر، في هذا اليوم لحظة تاريخية، تسجّلها الأجيال الحاضرة، وتُنقش في الذاكرة، لتبقى خالدة، تتناقلها الأجيال القادمة. سيسجّل التاريخ لدولة الاستقلال تحقيق هذا الإنجاز، الّذي يأتي تأكيدا لانتماء الجزائر الأصيل، ومرجعيتها المستمدّة من رصيدها التاريخيّ، وعطاء علمائها. وإسهامات مراكزها العلمية، على مرّ الحقب والعصور. ويقام هذا الصرح الدينيّ الكبير ليضاف إلى نظرائه في البلدان الإسلامية، وتزدان به في بلادنا الحواضر العلمية الّتي أسّست في ربوعها لإقامة دين الله وتعليم كتابه، وإصلاح النفوس بالدّين القيّم والتوجيه الراشد. بُني فوْق أرض سقتها دماء الشهداء، وخلّدها حبر العلماء؛ وافتتح في ذكرى من استشهدوا من الـمقاومين، فِي الأشهر الأولى للاحتلال، في مجزرة العَوفيّةِ البشعة بأرض الحرَّاش القريبة من المحمّدية؛ كما استشهد آلاف الجزائريّين من أجل الدّفاع عن بيت الله، جامع كتشاوة، والذود عن حرمته. إنّه لوفاءٌ خالصٌ، وتجديدٌ للعهد بمن فدَوا هذا الوطن، وبمن قاوموا الاحتلال، منذ أن وطِئ أرضَنا الطّاهِرة. وفاء لشعبنا المسلم الأبيّ الّذي ظلّ مرابطا، وتحصّن بركن الإسلام، ولاذ بقلاعه، من عهد الأمير، إلى ثورة التحرير؛ مدركا أنّ الشهادة في سبيل الله ليست موتا، ولكنّها حياة. وممّا نذكره من مواقف الأمير عبد القادر التاريخية ما عبّر عنه في رسالة له، يقول فيها: “لو جمعت فرنسا سائر أموالها، وخيّرتني بين أن أكون ملكا عبدا، أو أن أكون حرّا فقيرا معدما، لاخترت أن أكون حرّا فقيرا” ثمّ استطرد الأمير قائلا في جوابه:” كيف تفاخرون بقوّة فرنسا، ولا تقدّرون قوّة الإسلام، مع أنّ القرون الماضية أعدل شاهد على قوّة المسلمين، وانتصاراتهم على أعدائهم. ونحن، وإن كنّا ضعفاء على زعمكم، فقوّتنا بالله الّذي لا إله إلّا هو، لا شريك له.”
الجزء الثاني- من خطبة الشيخ محمد المأمون القاسمي-