عندما طرحنا عبر الفايسبوك سؤالا على الشباب الجزائري يتعلق حول المدينة الساحلية التي يرغبون في زيارتها، كانت الإجابة تقريبا موحدة من طرف الكثيرين “نحلم بزيارة الصحراء”، وهي إجابة متوقعة لوجهة لطالما
اعتبرت قبلة السياح من الأجانب والجزائريين على حد سواء خاصة في فصل الشتاء.
وعلى شساعة مساحة الصحراء الجزائرية وامتدادها، يجد السائح نفسه حائرا أمام تعدد الوجهات التي تستدعي زيارتها، ومع ذلك هناك أسماء لمناطق تعد الأشهر والأكثر جلبا للسياح، وسنحاول في كل مرة التطرق لواحدة منها.
تاغيت.. مذهبة العقول وساحرة كل الفصول
إذا كنت تبحث عن وجهة سياحية في الجزائر يمكنك الذهاب إليها في كل الفصول فهي تاغيت، فهذه المدينة لا تخلو من السياح طوال أيام السنة وعلى مدار الفصول الأربعة.
تاغيت جوهرة الساورة وقلبها النابض، صنعت لنفسها اسما بجمالها وواحات نخيلها وتنوع طبيعتها، وكثبانها الرملية التي تتكئ عليها المدينة والممتدة على العرق الغربي الكبير، زيادة على امتدادها على الصحراء الصخرية “الحمادة” وواحة النخيل التي ترابض جنب واد على امتداد 18 كيلومترا، بقصورها الست الشامخة.
يوجد في تاغيت التي تتبع إداريا لولاية بشار، القصر القديم الذي يعتبر معلما تاريخيا هاما، ويحكي فترة من الفترات المهمة التي عاشها الساوريون في خضم حضارة قامت بالمنطقة، ويشهد القصر القديم اليوم ترميما يتوقع أن يعيد إليه بعض معالمه التي فقدها مع الزمن، وخصوصا فيما يتعلق بمنازل سكانه أو كما تسمى بـ “الديور”.
الداخل إلى هذا القصر لأول مرة لا يعرف كيف يخرج منه، له بابان، أولهما أساسي لإدخال الزوار وباب خلفي يقود إلى ساحة واسعة بها واحات النخيل، حيث تسمع أهازيج وغناء (صحاب المايا) كما يسميها سكان تاغيت، وهي مجموعة من النساء يرددن أغاني شعبية يطلق عليها “الرحبة”.
عندما تصل إلى تاغيت ستدعوك لوقفة تأمل عند مدخلها، ولا تجد نفسك إلا مستسلما لشعور داخلي قد لا تعبر عنه الكلمات، حيث تشدك خضرة نخيلها وسمرة كثبانها، وإطلالة بقايا منازل مهجورة ترامت على أطراف المنطقة لتحكي للعابرين قصة منطقة أبدع الخالق في صنعها… تاغيت جنة الله فوق الأرض، حيث الكثبان الرملية الشاسعة والرمال الذهبية المنسابة وجنان الواحات الخضراء التي تتخلّلها أغادير المياه العذبة.. الداخل إلى تاغيت لأول مرة يشعر أنه داخل إلى كوكب آخر حيث الهدوء والسكينة اللتين تفرضهما طبيعة المنطقة التي تجمع بين الرمل والصخر والخضرة ويجري بينها الماء في صورة من أروع الصور التي أبدعها الخالق في ملكوته.
“تاغيت” أو “تاغيلت” أو “إغيل” تنقلنا التسمية إلى أحقاب زمنية عابرة متصلة بسكانها الأوائل بني كومي (بني قومي)، حيث تروي الأسطورة أنّ تاغيت مشتقّة من الكلمة العربية “غيث” أو “إغاثة”، وقد أطلق عليها هذا الإسم حسب الأساطير من قبل شيخ زاهد أعياه المشي حين ظهرت له واحة وافرة الثمار يجري بها ماء عذب، فاستراح عندها وأكل من خيرها وشرب من مائها، ويقال كذلك إنّ اسم تاغيت مشتق من “تاغونت”، وتعني بالبربرية “الحجر” أو “تيغليت” وتعني الهضبة إذ بنيت على ربوة، و”إغيل” هو الذراع والبعض يقول إنّه المكان الضيّق بين الجبل والكثبان الرملية، ومن المؤكّد أنّ تاغيت كانت آهلة بالسكان منذ أكثر من 11 قرنا، ولقد أكّد ابن خلدون وحسن الوزان أنّ بني كومي أو بني قومي كانوا أوّل من سكن المنطقة، وهم من قبائل العهد الواديد الذين حكموا تلمسان قبل أن ينهزموا أمام المرينيين في فاس عام 735 للهجرة ليقرّروا العودة والإستقرار بالصحراء.
ويبدو أنّ هضبة “زوزفانة” التي تقع عليها تاغيت سكنت منذ عصور بعيدة، والقصور وآثارها تثبت ذلك في الحقبة الأجورية، ونظرا لعددهم الكبير سمي سكان الهضبة “قوم”، ومن هذا جاءت تسمية “بني قومي” الاسم الحالي للسكان. وهناك من يقول إنّ أوّل من سكن تاغيت هم قبيلة الروابح (أولاد بلخير فقيق)، وكانت سوقا من زمن الخليل عليه السلام، ويحكى أنّ المنطقة عرفت بازدهارها العلمي والمعرفي، لكن الحرب لم تترك سبيلا لاستقرار العلم بالمنطقة بسبب تكالب القبائل عليها لاكتفائها المعيشي، أمّا في عهد الاستعمار فقد شهدت المنطقة دخول القوات الفرنسية شهر فيفري 1897 بقيادة الرائد غوردن.
تاغيت اليوم هي وليدة التقسيم الإداري لسنة 1991، تقع على بعد 960 كيلومترا جنوبي غرب العاصمة الجزائرية، تابعة لولاية بشار، يحدّها شرقا العرق الغربي الكبير، شمالا بني ونيف وبشّار وجنوبا إقلي، بني عباس، وغربا العبادلة، وتتربّع على مساحة تقدّر بحوالي 8040 كلم مربع، و مع هذا فهي لم تكن تحتوي إلا على فندق واحد هو “فندق تاغيت”، فالمدينة لم تكن تتوفّر إلاّ على هذه المؤسّسة الفندقية التي تم تدشينها عام 1971 من طرف وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة رفقة وزير الخارجية التونسي الهادي نويرة، لكن و مع الإنتعاش السياحي الذي عرفته المنطقة لم يعد هذا الفندق قادرا على استيعاب الطلبات، خاصة بعد أن أصبحت تاغيت قبلة للسياح من الجزائر وخارجها، وهذا ما دفع بالمسؤولين لفتح المجال أمام المستثمرين الخواص، و هناك الكثير من المشاريع المنتظرة.
وأمام غياب المرافق الكافية لإقامة السياح لاسيما في المواسم أو المناسبات على غرار موسم تاغيت، وفصل الصيف، حيث يتّجه العديد من الجزائريين والأجانب للتداوي بالرمال الساخنة، ظهر استثمار من نوع آخر غير مرخّص به وغير قانوني، حيث يقوم العديد من سكان المنطقة بكراء منازلهم للوافدين ولكن ذلك يتم بطرق عشوائية.
و تعد المواقع الأثرية في تاغيت شاهدا حيا على هوية المنطقة وأصولها الضاربة في عمق التاريخ ، والمتمثّلة في النقوش الصخرية الواقعة على طول وادي “زوزفانة”، والتي عبّر من خلالها الإنسان البدائي الأوّل عن بيئته التي تعود إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد، ولكن رغم وجود جمعية للحفاظ على النقوش الصخرية والديوان البلدي للسياحة، تتعرّض هذه النقوش للسرقة والتخريب والتشويه والإندثار، فضعف الموارد البشرية وجهل سكّان المنطقة لأهمية ذلك الشريط الأثري القيّم أدّى إلى الزوّال التدريجي لتلك الآثار التي لا يتم الالتفات إليها إلاّ خلال المناسبات كشهر التراث.. ولكن بعد انطفاء الأضواء تغرق تلك الذاكرة في ظلام النسيان لتترك غنيمة للإهمال واللامبالاة، وإلى جانب النقوش الصخرية تعرف تاغيت بقصورها القديمة التي يبلغ عددها 47 قصرا قديما، من بينها قصر “عرق الحمام” الذي كان يمتدّ إلى محطة النقوش الصخرية، يدعى سكانه “الأعاجم”، عبّروا بالرسم على الحجارة عن حال عيشهم، وقصر “مزاورو” الذي سكنته قبيلة تدعى “أماسي”، وأهمّ تلك القصور “القصر القديم” أو “العتيق” الذي يعود بناؤه إلى حوالي 08 قرون من طرف الولي الصالح سيدي أحمد أورابح، وتجري حاليا بعض الترميمات لتحويلها إلى قبلة للسياح و جعلها مستعدة لاستقبالهم.
أسكرام والأهقار… معقل الطوارق وحكاية ملكة حكمت الأمصار والذهب المكنون
جبل أسكرام يبعد بـ 80 كلم عن مدينة تمنراست، ويتم الوصول إليه عبر طريق مرصوف، في رحلة مدتها حوالي الثلاث ساعات وتتخللها مشاهد طبيعية مدهشة من بينها أشكال جبلية تشبه الإبهام والأسد و الحوت وغيرها من التكوينات البركانية المذهلة.
هذا، ويتهافت الكثير من المغامرين الأجانب إلى أقصى جنوب الجزائر لاكتشاف أسرار المنطقة التي تكتنز في جنباتها تراثا إنسانيا موغلا في القدم، يضم إليه أحد أقدم الرسومات البشرية المنحوتة على صخور عالية تحميها الطبيعة وتذود عنها من عوامل التعرية، وتزيدها أشعة الشمس التي يعد شروقها من أجمل المناظر في العالم رونقا. وتستكين مساء مع غروب قُرصها وسط صخور قرميدية فاسحة المجال أمام زوار المتحف الطبيعي المفتوح الوافدين من دول العالم، ليروُوا غليلهم من قصص مجتمع الطوارق، سكان الهقار ينصتون باهتمام لروايات الرجال الزرق، وقصة ملكتهم تين هينان التي سادت وحكمت قبل قرون خلت.
هي أماكن تبعث في النفس السكينة والهدوء وروح التأمل، ولا عجب في أن تكون صحاري ولاية تمنراست على مرّ العصور مكانا محببا من طرف الزهاد من مختلف الأديان، إلى يومنا هذا تجد من ضمن وفود السياح الراغبين في التوغل في عمق الصحاري أفواجا من مختلف دور العبادة المسيحية من مختلف القارات، يسمونها “الخلوة” يقضون ما يقارب العشرة أيام زاهدين في الصحراء، حيث يقل طعامهم وشرابهم إلا بالقدر الذي يحفظ لهم الحياة “مهمتهم الوحيدة التعبد والتفكر في شؤون الخلق” تماما مثلما كان يقوم به الأب فوكو، المتعبد المسيحي، الذي ترك دياره الفرنسية ليختلي بنفسه في صحاري الجزائر طلبا للعزلة والتأمل، فكان له ذلك، هذا الأب، الذي تحوّل مسكنه بمدينة تمنراست لمقام وجب زيارته لكل السياح.
الجدير بالذكر أن تمنراست المدينة لا تقدم لسياحها الفرجة الكبيرة التي من شأنها الإبقاء على السائح بها، فعدا متحف الحظيرة الوطنية للأهڤار، الذي لا يكاد يأخذ من وقت السائح أكثر من ربع ساعة ومقام الأب فوكو وسوق الأسيهار، لا تتوفر المدينة على شيء يذكر والجدير بلفت انتباه أي زائر، فحالها حال كل المدن الداخلية التي تصارع في سبيل الحياة اليومية، بنايات عمومية ذات هندسة محافظة على الإرث المعماري للمنطقة بشكل من الأشكال، إن افترضنا أن هناك تراثا معماريا مميزا، على اعتبار أن أهل المنطقة من الرحل ممن يتخذون الخيم مسكنا لهم. وقد يتأكد الأمر مع هندسة الأحياء السكنية، سيما الشعبية منها، حيث لا تحددها أي ميزة عمرانية عدا كون العمران في تمنراست بعيدا عن العلو وعادة ما يكون التوسع أفقيا، وإن كانت صهاريج الماء المثبتة أكثر ما يميز مساكن تمنراست، صهاريج تشير لأزمة الماء الحادة التي تعرفها الولاية، في انتظار الحل الموعود مع مشروع استقدام الماء من عين صالح.
الأسكرام بجباله الفريدة في تركيبها والبديعة في جمالها تظل قبلة السياح، فلا يكاد أي فوج سياحي يقضي يومه في مدينة تمنراست، إلا وغادرها في اليوم التالي متوجها للأسكرام وصحاريه، حيث دلائل بدايات البشرية، كتابات، منحوتات، نقوش وغيرها من الدلائل على وجود حياة، برع سكان المنطقة في أقلمتها مع طبيعة قفار الصحراء، بل أكثر من ذلك، لم يكتفوا بالتأقلم إنما تفننوا في ابتكار حياة متكاملة حق نعتها بالحضارة_ لم يتبق اليوم من حضارة الطوارڤ، أو الإيموهار، التسمية التي يحبذها سكان المنطقة الأصليون، سوى الفلكلور والعادات والتقاليد الراسخة يتناقلها الأهالي في إطار الأسرة بعيدا عن أي تدوين معرفي حقيقي بتاريخ المنطقة وحضاراتها.
ولعل أصدق دليل المرويات العديدة عن ملكة الأهڤار، تين هينان، تلك الحسناء التاركة لموطنها الأصلي بمنطقة تفيلالت المغربية على إثر خلاف عائلي، حيث يرد في الرواية الشعبية أنها نجحت في تشكيل تحالف مع قبائل المنطقة لتتحول بذلك إلى أم كل الطوارڤ، هذا عن الرواية الشعبية. أما ما يقوله خبراء التاريخ وعلم الآثار فيكاد يقارب العدم، إذ تظل هذه المرويات الشعبية تتردد من دون القدرة على التحقيق في مصداقية المروية، حتى أن الهيكل العظمي المتواجد بمتحف الباردو، والذي يقدم على أنه هيكل الملكة تين هينان تجد من الباحثين من يشكك في جدية هذا الطرح، على اعتبار أن الضريح المستخرج منه الهيكل لا يشير بأي شكل من الأشكال لصاحب الضريح، بل إن هناك من يعتقد أن الأمر يتعلق برجل وليس امرأة، المثير أن ما كرس رواية الملكة تين هينان في المخيال الجماعي ليس في الجزائر فحسب وإنما عبر العالم، رواية تحمل عنوان ”الأتلانتيد الضائع” وهي رواية للكاتب الفرنسي بيير بونوا، الذي يروي قصة ملكة صحراوية نجحت في جني ثروة من خلال استغلال جندها في نهب القوافل في الصحاري، ولما كان اسم الملكة أنتينيا اللفظ اللاتيني لاسم تين هينان، فقد ساد الاعتقاد أن الرواية تتحدث بالضرورة عن ملكة الأهڤار، وحتى لو افترضنا أن الحال كذلك، فإنه لا يمكن الأخذ بعين الاعتبار الحديث عن رواية للاستشهاد على وقائع تاريخية.
ومما زاد الموضوع إثارة أن العالم بات يشيد بالمجتمع الطارڤي الذي بالرغم من بداوته يمنح المرأة مكانة الأولوية على عكس المجتمعات البدوية التي تنظر لها على أنها كائن من الدرجة الثانية، عدا الطوارڤ الذين كرسوا احترامهم للمرأة لدرجة توليها أعلى المناصب، وهو الملك.
وكان هذا الطرح مدخلا لترويج الاستثناء الطارڤي، حيث تداخلت الروايات المتماشية مع ذات الطرح، من قبيل اللثام الذي يضعه الطارڤي خجلا وإجلالا للمرأة التي تسير هي دون الحاجة لتغطية وجهها، كلها روايات باتت تتناقل على أنها مسلمات، غير أنه يكفي أن تنبش في الحقائق قليلا لتكتشف أنها مغالطات تم الترويج لها خلال فترة معينة، إما عن جهالة، أو خدمة لأغراض معينة.
فالجدير بالذكر أن بدايات الاهتمام بتاريخ الطوارڤ كان خلال الفترة الاستعمارية على أيدي باحثين يملكون من النظرة الغرائبية، ما يجعلهم يأولون الوقائع والمرويات على حسب فهمهم الخارجي ورغبتهم أحيانا، وهو ما يسعى اليوم شباب الطوارڤ المهتم بمطابقة المرويات المتوارثة شعبيا وبين البحث العلمي الجاد، حيث يؤكدون لكل من يرغب في تصديقهم على أن التراث الطارڤي لا يذكر تين هينان على أنها ملكة وإنما شخصية بارزة تماما كما لا يقرون بخرافة اللثام الذي يرتديه الطارقي لشعوره بالخزي، وهو ما أكده الأستاذ بجامعة تمنراست، السيد زنداري، الذي يؤكد أن حقيقة المجتمع الإموهاري بات يحوي من المغالطات ما يستلزم عملا ميدانيا جادا لتخليصه منها، في إشارة إلى أن البداية تكون من خلال فهم الموروث الشعبي للمنطقة.
ومع الإشارة إلى أن عدم اعتراف الطوارڤ بتولي تين هينان منصب الملكة أو كما يعرف لدى المجتمع الإموهاري بـ ”تمنوكلت”، لا ينقص من أهميتها ولا من مكانة المرأة لدى الطوارڤ، حيث تحظى باحترام يقارب التقديس والإجلال، فهي في العرف الطارڤي المحرك الرئيسي للمجتمع وحافظة الذاكرة.