أدومه وإن قل

أدومه وإن قل

 

ديمومةُ العملِ الصالحِ مقصدٌ شرعيٌّ كليٌّ أصيلٌ، وخيرٌ مباركٌ؛ تُصْبَغُ به الحياةُ بغايةِ العبادةِ التي لأجلِها خَلَقَ اللهُ الخلقَ، وتكونُ هي اللونَ السائدَ فيها، كما قال تعالى ” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ” الأنعام: 162، فينعمُ فيها المؤمنُ برضى المولى وهناءِ العيشِ، ويذوقُ الجنةَ المعجَّلةَ مع ما ينتظرُه من جنةِ الآخرةِ. ولأجلِ بقاءِ ذلك الدوامِ التعبديِّ نَهَتْ الشريعةُ عن التشددِ في العبادةِ، وبيّنتْ أن خيرَها ما دامَ عليها صاحبُها وإن قلَّتْ، عن عائشةَ رضي اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَحْتَجِرُ حصيرًا بالليلِ فيصلي عليه، ويبسطُه بالنهارِ فيجلسُ عليه، فجعلَ الناسُ يثوبون إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيصلُّون بصلاته حتى كثروا، فأقبلَ فقال “يا أيها الناسُ، خذوا من الأعمالِ ما تطيقون؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دامَ وإنْ قَلَّ ” وكان آلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملًا أثبتوه. رواه البخاريُّ ومسلمٌ، وذلك يفْصِحُ عن كمالِ شفقتِه صلى الله عليه وسلم ورأفتِه بأمتِه؛ إذ أرشدهم إلى ما يصلحُهم؛ وهو ما يُمْكِنُهم الدوامُ عليه بلا مشقةٍ.

إنَّ المواظبةَ على قليلِ العملِ الصالحِ أمنةٌ ربانيةٌ للعبدِ، وسلامةٌ عاصمةٌ له بأمرِ اللهِ مِن الزيغِ والضلالِ؛ وتلك المواظبةُ تقتضي رعايةَ الفرائضِ والواجباتِ، وتركَ المحرماتِ، وتعاهدَ التوبةِ حالَ الإخلالِ بالواجبِ أو انتهاكِ المحرمِ، كما تقتضي تلك المواظبةُ الإبقاءَ على النوافلِ التي يَسْتَمِرُّ عليها العبدُ دون مللٍ؛ كقراءةٍ يوميةٍ للقرآنِ مدةَ ثلثِ ساعةٍ، أو قيامِ ركعةٍ بعد العشاءِ، أو صدقةٍ ببضع من المالِ، أو دعاءٍ أو استغفارٍ، أو تعلُّمِ مسألةِ دينيةٍ، أو إرسالِ فائدةٍ أو نصيحةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، أو قيامٍ ببرنامجٍ دعويٍّ في الأسرةِ أو الحيِّ ولو في العامِ مرةً، أو أداءِ عمرةٍ سنويةٍ. ولا يتعارضُ الدوامُ على طاعةِ النافلةِ مع الازديادِ منها حالَ مواسمِ الخيرِ كرمضانَ وعشرِ ذي الحجةِ واستغلالِ نشاطِ النفسِ وإقبالِها على الطاعةِ دون الإثقالِ عليها بما يسبِّبُ لها المللَ أو المشقةَ؛ فذاك كان إرشادَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما هو حالُه. قال عمرُ رضي اللهُ عنه “إن لهذه القلوبِ إقبالًا وإدبارًا؛ فإذا أقبلتْ فخذوها بالنوافلِ، وإذا أدبرتْ فألزموها الفرائضَ”.