إِنَّ مُجْتَمَعَاتِنَا الْيَوْمَ لَتَعِيشُ تَدَهْوُرًا كَبِيرًا فِي سُلَّمِ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمُثُلِ، فَهَلْ مِنِ اسْتِفَاقَةٍ سَرِيعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ الطَّوِيلَةِ؟ وَهَلْ مِنِ انْتِفَاضَةٍ عَلَى هَذِهِ الانْتِكَاسَةِ الْخَطِيرَةِ؟ ثُمَّ لِنَسْأَلْ أَنْفُسَنَا بِصَرَاحَةٍ: مَا مَحَلُّ هَذَيْنِ الْخُلُقَيْنِ فِي سُلُوكِيَّاتِنَا؟ وَهَلْ لَنَا نَصِيبٌ مِنْهُمَا فِي تَعَامُلَاتِنَا؟
– يَا مَنْ اخْتَلَفْتُمْ عَلَى مِيرَاثٍ دُنْيَوِيٍّ فَانٍ، أَوْ تَرِكَةٍ مَادِّيَّةٍ زَائِلَةٍ، هَلَّا تَصَالَحْتُمْ عَلَى قِسْمَتِهِ بِالتَّرَاضِي، فَتَجَاوَزَ بَعْضُكُمْ حُظُوظَ نَفْسِهِ فِي التَّمَلُّكِ، وَآثَرَ أَخَاهُ أَوْ أُخْتَهُ بِالنَّصِيبِ الأَوْفَرِ، وَحَافَظَ عَلَى رَحِمِ الْقَرَابَةِ مُتَمَاسِكَةً، مُبْتَغِيًا الأَجْرَ الْوَفِيرَ عِنْدَ اللَّهِ، طَامِعًا فِي تَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ خَطَايَاهُ؟
– يَا مَنْ تَعَامَلْتُمْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا، هَلَّا تَقَاضَيْتُمْ قَضَاءً حَسَنًا، وَتَجَاوَزَ بَعْضُكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ، حِفَاظًا لِرَابِطَةِ الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ، وَتَمْتِينًا لِلْعَلَاقَةِ الإِنْسَانِيَّةِ، ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟
– يَا مَنْ اخْتَلَفْتُمْ فِي رُؤَاكُمْ وَأَفْكَارِكُمْ –دِينِيًّا أَوِ اقْتِصَادِيًّا أَوِ اجْتِمَاعِيًّا أَوْ سِيَاسِيًّا–، هَلَّا تَعَاوَنْتُمْ فِيمَا اتَّفَقْتُمْ فِيهِ، وَعَذَرَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِيمَا تَبَايَنَتْ فِيهِ رُؤَاكُمْ؟
– يَا مَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَوَقَعْتُمْ فِي أَعْرَاضِ إِخْوَانِكُمْ سَبًّا وَشَتْمًا وَطَعْنًا وَلَمْزًا، هَلَّا تَجَاوَزْتُمْ أَحْقَادَكُمْ، وَطَهَّرْتُمْ أَفْئِدَتَكُمْ، وَعَفَوْتُمْ عَفْوَ الْمُقْتَدِرِ، فَنِلْتُمْ بِذَلِكَ عَفْوَ اللَّهِ وَمَغْفِرَتَهُ مِنْ فَوْقِكُمْ؟
وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْۖ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَّغْفِرَ اَ۬للَّهُ لَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌۖ
يَا أَهْلَ الصِّدْقِ وَالتَّجَاوُزِ: لِنَبْدَأْ صَفْحَةً جَدِيدَةً مُشْرِقَةً، نَتَصَالَحُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا أَوَّلًا، ثُمَّ نَنْطَلِقُ لِإِصْلَاحِ مَا انْكَسَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، مُطْلِقِينَ أَحْقَادَنَا، مُتَجَاوِزِينَ حُظُوظَ أَنْفُسِنَا، مُرْتَقِينَ إِلَى مَصَافِّ الْمَلَائِكَةِ الْأَطْهَارِ، حَاذِينَ قَوْلَ الْحَقِّ تَعَالَى “وَلَا تَسْتَوِے اِ۬لْحَسَنَةُ وَلَا اَ۬لسَّيِّئَةُۖ اُ۪دْفَعْ بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَ۬لذِے بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞۖ وَمَا يُلَقّ۪يٰهَآ إِلَّا اَ۬لذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّ۪يٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖۖ ” سورة فصلت:34،33. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الإِصْلَاحَ فِي الْوَلَدِ، وَالْعَافِيَةَ فِي الْجَسَدِ، وَالأَمْنَ فِي الْبَلَدِ. اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا فِي أَرْضِ الرِّبَاطِ وَالاسْتِشْهَادِ –غَزَّةَ الْعِزَّةِ– وَفِي كُلِّ فِلَسْطِين. اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُمْ، وَأَطْعِمْ جَائِعَهُمْ، وَاسْتُرْ عَارِيَهُمْ، وَآمِنْ خَائِفَهُمْ، وَتَقَبَّلْ شَهِيدَهُمْ، وَأَنْزِلْ نَصْرَكَ الْمُؤَزَّرَ الْمُبِينَ عَلَيْهِمْ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ بَلَدَنَا هَذَا آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر