أحمد جبّار.. إشكاليات جديدة في قراءة تاريخ الحضارة الإسلامية

أحمد جبّار.. إشكاليات جديدة في قراءة تاريخ الحضارة الإسلامية

يطرح تاريخ العلوم في الحضارة العربية إشكاليات متعدّدة الوجوه، منها القطيعة مع واقع العلم اليوم في المنطقة العربية، وموقع المعارف العربية ضمن مجمل تاريخ العلوم، وأهميّة البحث في هذا المضمار وبأي أدوات. إشكاليات لم يكن من الممكن ألّا تلامسها محاضرةٌ ألقاها مؤرّخ العلوم الجزائري أحمد جبّار (1941) حول الميكانيكا في الحضارة العربية في فضاء “ليلوبون” بمدينة نانسي، شمال شرق فرنسا، بتنظيم من جمعية “ديوان لورين”.

انطلق جبّار من تسميتين تَظهران في الكتب العربية للميكانيكا؛ الأولى حين اقترض العرب المفردة كما هي من اللغة اليونانية، وهو اقتراض يعبّر، بحسب المؤرّخ الجزائري، عن مرونة؛ حيث كان العلماء العرب يقترضون الكلمات التي لا يجدون لها مرادفات في العربية، ريثما يتهيّأ بديلٌ لها، وهو ما حصل تحديداً مع الميكانيكا حين بدأ لاحقاً استعمال تسمية “علم الحيل”، وهي تسمية تدلُّ على فهم عميق لمضمون هذا العلم، لكن جبّار يشير إلى ضرورة عدم فهم مفردة “الحيلة” بمعناها المتداول اليوم بحمولته السلبية، بل بمعنى الفهم العميق للظواهر ثم تصوُّر حلول لإشكاليات ملموسة، وهو ما يحتاج إلى الجمع بين الدراية النظرية والقدرة العملية.

تعرّج المحاضرة على الإشكالية المتعلّقة بفهم نوعية العلاقة بين العرب واليونان، وخصوصاً الفصل بين ما هو إرث جاهز وما هو تطوير. يشير جبّار، في البداية، إلى أن الحضارتين اليونانية والعربية هما الوحيدتان اللتان كان لهما إسهام نظريّ في العلم قبل العصور الحديثة، أمّا بقية الحضارات فكانت تتفوّق في عصرها بقدرتها على إنتاج حلول عملية فحسب. ويتطرّق هنا إلى التهمة التي وجّهها بعض المستشرقين إلى الحضارة العربية بكونها ليست سوى ناقل لما أنجزه اليونان، فيما انهمك بعض المؤرّخين العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين في إثبات أن للعرب مساهمات علمية تجاوزت ما أنجزه اليونان.

يرى جبّار أنَّ من المؤكّد القول بأن العرب كانوا “تلامذة اليونان”، مثلهم مثل الرومان وغيرهم من الشعوب، غير أنهم وحدهم ينفردون بأنهم تلاميذ جيّدون، لأنهم واصلوا نفس الاهتمامات وطرحوا محاولات جديدة في تجسيدها، منها بعض النظريات في الميكانيكا التي لا يمكن تجسيدها على الواقع مثل استعمال المرايا العاكسة كسلاح حربي، إضافة إلى تطويرات أساسية في مجالات مثل علم الموازين، والرافعات، والتحكّم في المياه، وصناعة الساعات والألعاب، والأسطرلاب الذي يمثّل “جوهرة العصور الوسطى” بحسب تعبير الكثير من المؤرّخين.

قدّم جبّار ما يشبه البيبليوغرافيا لمحاضرته، وهنا تطرّق إلى قلّة المخطوطات التي جرى تحقيقها ونشرها في كتب، إضافة إلى أنّ عدداً كبيراً من المخطوطات ضاع أو أُتلف، مشيراً إلى أنَّ كثيراً من المؤلّفات التي وضعها العلماء العرب في الميكانيكا لم تُترجَم في زمنها، رغم أنَّ الأندلس، وهي همزة الوصل بين العرب وأوروبا في القرون الوسطى، كانت مقصد طلبة العلم الأوروبيّين الذين كانوا لا يفوّتون الفرصة لنقل المعارف إلى اللاتينية، وهو ما يشير إلى أنَّ كتب علم الحيَل كانت غير قابلة للفهم وبالتالي للترجمة في ذلك الوقت، مع إشارة إلى أنه ينبغي الانتباه دائماً إلى أنَّ العلوم لا تزدهر إلّا في وجود طلب من المجتمع، وهو أمر يفسّر عدم وصول الميكانيكا العربية في العصور الوسطى إلى أوروبا، كما يفسّر اضمحلالها في البلاد العربية لاحقاً.

الاشتباك كباحث مع المخطوطات لسنوات طويلة أتاح لجبّار أن يتابع سياسات المنطقة العربية والبلاد المجاورة بخصوصها. يعتبر المؤرخ الجزائري، في هذا السياق، أن إيران هي البلد الأكثر عنايةً بالمخطوطات، وتليها تركيا، ثم تأتي بلدان عربية: مصر فالمغرب فتونس فالجزائر وموريتانيا، في حين أن مخطوطات بلدان كالعراق دخلت في منطقة المجهول، فلم يبق سوى الجهود الأهلية للحفاظ عليها.

ب/ص