أعمى الطغيان أعين الفرنسيين، وأصمّ الاستكبار آذانهم، وران الحقد على قلوبهم، فأقاموا سنة1930 احتفالات ضخمة بمناسبة مرور قرن على احتلالهم الجزائر، وصرّحوا بأقوال وقاموا بأعمال جددت في نفوس الجزائريين آلامًا نُسِيَتْ، وفتقت جروحًا رُتقَتْ، وكانت اللازمة التي ردّدها الفرنسيون قبل تلك الاحتفالات وفي أثنائها وعقبها، هي أنهم لا يحتفلون بنصر عسكري حققوه؛ ولكنهم يحتفلون بالقضاء على الإسلام واللغة العربية في الجزائر التي أعادوها إلى النصرانية وريثة الوثنية الرومانية، وإلى الفرنسية وريثة اللغة اللاتينية. وقد لخّص كاردينال الجزائر ذلك كله بقوله: ” إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر، وإن عهد الصليب قد بدأ وسيستمر إلى الأبد “. استغلت ثلة من علماء الجزائر، أيقاظ الشواعر، وأحياء الضمائر، وأصفياء البصائر تلك الاستفزازات الفرنسية ليُنَبّهوا الجزائريين إلى ما يُراد بهم من كيد، وما يُدبر لهم من مكر، وليُحْيوا في أنفسهم الأمل الدافع إلى العمل، ويقتلوا اليأس المميت للبأس. وتنادى أولئك العلماء إلى لقاء أثمر تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فأنارت الجزائر وأضاءت ما حولها، وبصّرت الجزائريين بما لم يبْصُروا به، وغيّرت ما بأنفسهم فغير الله – بعد حين- ما بهم، وتحوّلوا من “أَنْدِيجان”، إلى “شعب”، ومن قبائل إلى أمّة. وقد قام الإمام الإبراهيمي في ذلك الاجتماع التاريخي بدور فعّال، وبذل مجهودًا كبيرًا في أشغاله، وأسهم مساهمة نوعية في مناقشاته، فأبان علمًا، وأظهر حزمًا، وأبدى عزمًا، فَعُهِد إليه إعداد قانون الجمعية، فأعدّه بحكمة وبصيرة، فأكبره المؤتمرون، واعترفوا بفضله، فأسندوا إليه نيابة رئاسة الجمعية، فكان القوي الأمين. إن المدرك لروح فلسفة جمعية العلماء، العارف بمنطلقاتها الفكرية، العالِمَ بمقاصدها. المطّلع على أدبياتها يستيقن أن إسهام العلماء في هذا المؤتمر لم يكن إلا موقفًا مرحليًا، هدفوا من ورائه – في حال استجابة فرنسا لمطالب المؤتمر- إلى تخفيف الضغط عن الشعب الجزائري، وتحسين حالته الاقتصادية المتردية وأوضاعه الاجتماعية المأساوية، ورفع القيود عن التعليم العربي، ونيل نصيب من الحرية يمكّنهم من تثبيت أسس مشروعهم الحضاري الذي يُعد الشعب الجزائري ليوم الفصل، الذي يحق الحق ويبطل الباطل؛ فإن لم تستجب فرنسا لتلك المطالب – وهو ما كان العلماء يعلمونه علم اليقين، ويرونه رأي العين- اتخذوا من ذلك الرفض حجة أخرى يقنعون بها الذين يحسنون الظن بفرنسا أنهم لن ينالوا منها شيئًا، وأن وعودها برق خُلب. أما الموقف الحقيقي للجمعية فهو ما عبر عنه الإمام، الإبراهيمي في ذلك الوقت بقوله: “إن الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تُسْتَرجَعُ إلا غلاَبا”.
من كتاب -أثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي-